لقي صدور قرار بقانون، يحدد سن الزواج في فلسطين، بما لا يقل عن ثمانية عشر عامًا، ترحيبًا من قطاعات واسعة، من المهتمين والمشتغلين بالشأن الاجتماعي. لكن برزت مخاوف بشأن مدى إمكانية تطبيق القانون، وما نص عليه من استثناءات، إذ يُخشى من إفراغ التحديد للقانون من مضمونه، فضلًا عن عدم التزام محاكم قطاع غزة بالقرارات بقانون الرئاسية. ولعل صدور توضيحات وتعليمات جديدة تحدد الاستثناءات، وتبني الجهات المعنية في غزة للقرار أو مضمونه؛ يمكن أن يحل الإشكاليات.
أصدر الرئيس محمود عباس القرار، بتاريخ 3/11/2019، (قرار بقانون (21) للعام 2019 معدل للتشريعات الناظمة للأحوال الشخصية بشأن تحديد سن الزواج في دولة فلسطين)، الذي نصّ في مادته (2) على "يشترط في أهلية الزواج أن يكون طرفا عقد القران عاقلين، وأن يتم كل منهما ثمانية عشرة سنة شمسية من عمره".[1] وجاء هذا القرار بعد تنسيب مجلس الوزراء الفلسطيني في جلسته التي عقدت في 21/10/2019 بتعديل المادة (5) من قانون الأحوال الشخصية للعام 1976، القاضي بتحديد سن الزواج ليصبح 18 سنة لكلا الجنسين، مع استثناءات يقررها قاضي القضاة.[2]
تضمن القرار استثناء، وهو "يجوز للمحكمة المختصة في حالات خاصة، وإذا كان في الزواج ضرورة تقتضيها مصلحة الطرفين، أن تأذن بزواج من لم يكمل ثمانية عشرة سنة شمسية من عمره، بمصادقة قاضي قضاة فلسطين، أو المرجعيات الدينية للطوائف الأخرى".[3]
أثار صدور القرار تساؤلات عدة حول أهمية القرار وأبعاده، وأثر النص على الاستثناء. وكيف يمكن تطبيقه في قطاع غزة في ظل الانقسام، كون قرارات الرئاسة والحكومة وقاضي قضاة فلسطين غير مطبقة في القطاع.
تشير الإحصاءات إلى ارتفاع نسب الزواج المبكر، فقد بلغت نسبة زواج الإناث أقل من 18 سنة في العام 2017 حوالي 20%.
الإقرار برفع سن الزواج
سبق قرار رفع سن الزواج مبادرات وحملات ضغط، نُفذت على مستوى محافظات الوطن ضد التزويج المبكر. فمثلًا في العام 1995، نظم مركز شؤون المرأة بغزة، حملة تحت عنوان "قف وفكر قبل الزواج المبكر"، وعاد المركز ونفذ حملة "ما زلت طفلة". كما تشكلت تحالفات نسوية في المحافظات الشمالية (الضفة الغربية)، ونفذت حملات منها "نحن مواطنات" التي نظمها الائتلاف النسوي للعدالة والمساواة "إرادة"، وتهدف إلى رفع سن الزواج إلى 18 عامًا.
قبل القرار، كانت المحاكم المختصة في الضفة الغربية، تطبق قانون الأحوال الشخصية الأردني رقم (61) للعام 1976، ونصت المادة (5) على "يشترط في أهلية الزواج أن يكون الخاطب والمخطوبة عاقلين، وأن يُتِمَّ الخاطب السنة السادسة عشرة، وأن تُتِمَّ المخطوبة الخامسة عشرة من العمر".
أما في المحافظات الجنوبية (قطاع غزة)، فتُطبق المحاكم المختصة قانون حقوق العائلة رقم (303) المصري للعام 1954، التي تنص المادة (5) منه على "يشترط في أهلية النكاح أن يكون سن الخاطب ثمانية عشر سنة وسن المخطوبة سبعة عشرة فأكثر"، غير أن القانون أورد استثناءً على هذه القاعدة، وهو السماح للقاضي بتزويج الفتاة التي تتجاوز سن التاسعة من عمرها والفتى الذي تجاوز سن الثانية عشرة من عمره، بحسب نصّ المواد (6) و(7) و(8) من قانون حقوق العائلة.
تنتشر ظاهرة زواج الأطفال عالميًّا، وليست في فلسطين فحسب، إذ تشير منظمة الأمم المتحدة للطفولة - اليونيسف في تقريرها عن زواج الأطفال بأن 12 مليون فتاة في جميع أنحاء العالم، يتزوجن قبل سن 18 عامًا، بنسبة تتراوح ما بين "واحدة من كل خمس فتيات"[4]. أما في فلسطين، فوفق الجـهـاز الـمـركـزي للإحصاء الـفلسطيني، بلغت نسبة زواج الإناث أقل من 18 عامًا ممن عقد قرانهن خلال العام 2017 حوالي 20% من إجمالي الإناث اللواتي عقد قرانهن خلال نفس العام؛ 19% بالضفة الغربية، و21% في قطاع غزة.[5]
حظي قرار رفع سن الزواج بتأييد كبير من قِبل المؤسسات والتحالفات النسوية، مع الإجماع على المطالبة بإلغاء الاستثناءات أو تحديدها. ولم يعارض القرار سوى حزب التحرير، الذي أصدر بيانًا، بتاريخ 1/11/2019، وزّعه على المؤسسات النسوية بغزة متهمًا إياها والسلطة الفلسطينية برفع سن الزواج تلبية لأوامر الغرب في حربه على المرأة المسلمة من أجل إيجاد وتشجيع كل أشكال الفساد في بلاد المسلمين، وأن تبكير الزواج سُنّة، وهو خير للمجتمعات، وتأخيره فساد وإفساد.[6]
قرار رفع سن الزواج في ضوء القوانين الدولية والوطنية
أصدرت السلطة الفلسطينية منذ نشأتها تشريعات وقوانين ناظمة للمجتمع الفلسطيني، ووقّعت رزمة من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، وعند مقارنتها مع التشريعات والقوانين الوطنية يتبين بعض التعارض فيما يبنها. وهو ما دعا مجلس الوزراء في العام 2017 إلى تكوين "لجنة مواءمة التشريعات" للعمل على مراجعة التشريعات المعمول بها واستحداثها بما يتواءم مع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية.
وقّعت السلطة على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) في العام 2014، وتنص الفقرة (2) من المادة (16) على "لا يكون لخطوبة الطفل أو زواجه أي أثر قانوني، وتتخذ جميع الإجراءات الضرورية بما في ذلك التشريعي منها لتحديد سن أدنى للزواج، ولجعل تسجيل الزواج في سجل رسمي أمرًا إلزاميًا".
في ذات السياق، وقعت السلطة على اتفاقية حقوق الطفل، التي نصت في مادتها (1) على "الطفل كل إنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة، ما لم يبلغ سن الرشد قبل ذلك بموجب القانون المنطبق عليه". وهي تتوافق مع قانون الطفل الفلسطيني رقم (7) للعام 2004 الذي نص على أن الطفل هو كل إنسان لم يتم الثامنة عشرة من عمره.[7]
بالنظر إلى بعض القوانين والإجراءات السارية في فلسطين ومقارنتها بالزواج المبكر، فإن هناك الكثير من القوانين التي تمنع القيام بأمور لمن هم دون سن 18 عامًا لكلا الجنسين، مثل: فتح حساب بنكي، ومنع الطفل من نقل نفسه من المدرسة إلا بطلب من ولي أمره.[8]
السلطة التقديرية للقاضي
وجه ديوان قاضي القضاة، بتاريخ 11/12/2019، تعميمًا رقم (49/2019) إلى قضاة المحاكم، نصّ على العمل بموجب قرار بقانون رقم (21) للعام 2019، بشأن تحديد سن الزواج في دولة فلسطين بثمانية عشر سنة شمسية لكلا الجنسين، اعتبارًا من تاريخ 29/12/2019، والتعميم على المأذونين الشرعيين بذلك.
أما بخصوص الحالات الاستثنائية الخاصة، فقد تضمن التعميم "إذا كان في الزواج ضرورة تفتضيها مصلحة الطرفين، فيقتضي من فضيلتكم التحقق من المسوغات الشرعية والقانونية والاجتماعية، وتسطير ضبط بواقع الحال ورفعه إلينا مذيلًا بتوصيتكم بالخصوص، لدراسته وإجراء المقتضى الشرعي والقانوني حسب الأصول". ورغم تحديد تعميم قاضي القضاة المسوغات وأن القرار بيد قاضي قضاة فلسطين وليس بيد قاضي المحكمة، إلا أنه لم ينظر إلى مطالب المؤسسات النسوية بضرورة تحديد حالات الاستثناء بشكل دقيق.
بالنظر إلى تجربتي الأردن ولبنان، وبمقارنتهما مع قرار رفع سن الجواز، أثبتتا أن عدم تحديد سن الزواج بشكل قطعي، ومنح قاضي القضاة، وقاضي المحكمة "سلطة تقديرية" يؤدي إلى تناقضات وإشكاليات تؤثر على سلامة تطبيق القرار.
إن القانون الساري في الأردن لسن الزواج هو 18 عامًا، بوجود استثناء يسمح بالزواج في السادسة عشرة في "الحالات الخاصة" شرط موافقة قاضي القضاة. وبحسب أرقام دائرة قاضي القضاة فقد أصدرت السلطات الأردنية (77700) عقد زواج في العام 2017، بما في ذلك (10434) حالة كانت الزوجة فيها تحت 18 عامًا، و(299) حالة كان الزوج فيها دون 18 عامًا.[9]
أما تجربة لبنان، فلا يوجد سن محدد للزواج أو قانون مدني ينظم شؤون الأحوال الشخصية. وتُرِك الأمر للمحاكم الدينية، فمنها ما يسمح بزواج فتيات لا يبلغ عمرهن 15 عامًا. وبحسب تقرير اليونيسف للعام 2016، بلغت نسبة اللبنانيات ممن تزوجن دون 18 عامًا حوالي 6%، الأمر الذي تزوّجت نسبة 6% من اللبنانيات تحت سن 18 عامًا.
يتضح من التجارب السابقة بأن الاستثناء كان حاضرًا في تزويج ما دون الـ 18 عامًا في الأردن، وعدم سن قانون في لبنان كان سببًا في ارتفاع نسبة زواج القاصرات اللبنانيات.[10] ومن المتوقع أن تتكرر حالات الزواج في فلسطين ما دون الـ 18 عامًا في ضوء الاستثناءات، رغم الإجراءات التي أقرها القانون والتعميم الصادر عن قاضي قضاة فلسطين.
رفضت الائتلافات النسوية الاستثناءات، إذ اعتبر الائتلاف النسوي للعدالة والمساواة "إرادة" الاستثناءات تجويفًا للقرار، واستنادًا إلى تجارب كثيرة ستصبح هي القانون. وبالتالي، قصور القرار عن تلبية الاحتياج المجتمعي. وطالب الائتلاف برفع سن الزواج إلى 18 عامًا دون أية استثناءات.[11] ومن جهتها، رفضت صباح سلامة، منسقة منتدى مناهضة بالضفة الغربية، قانون رفع سن الزواج بوجود استثناءات، مستشهدة بالتجربة الأردنية التي أثبتت بن الاستثناءات أصبحت قاعدة.[12]
نظر منتدى المنظمات الأهلية الفلسطينية لمناهضة العنف ضد المرأة، إلى الاستثناء على أنه مفتوح أمام كل الاحتمالات، فهو لم يحدد طبيعة الاستثناءات التي قد تصبح قاعدة، مما يشكل عمليًا تشريعًا لتزويج الأطفال.[13]
فيما رأت زينب الغنيمي، مديرة مركز الأبحاث والاستشارات القانونية والحماية للمرأة، بأن يكون الاستثناء محددًا وواضحًا، كأن يكون للقاضي سلطة تقديرية في تثبيت عقد زواج تم خارج المحكمة لقاصرَيْن لم يبلغا الثامنة عشرة من العمر، وكان لنتيجة هذا الزواج أولاد أو حمل جنيني.[14] واتفقت مريم شقورة، مديرة مركز صحة المرأة بجباليا، مع الغنيمي قائلة: "أنا ضد أي استثناء لأنه طالما وُجِد الاستثناء سَهُل التجاوز، ولكن إن كانت هناك ضرورة للاستثناء فيجب أن يكون في حالات محددة وواضحة، وأن يكون مجازًا لجهة واحدة محددة فقط".[15]
في الواقع، وبعد أن أصبح القرار بقانون نافذًا يجب تحديد السلطة التقديرية للقاضي ضمن ضوابط ومعايير محددة.
إمكانية تطبيق القرار في قطاع غزة
في ظل الانقسام الفلسطيني، لا تلتزم محاكم غزة بالقرارات التنفيذية الصادرة من مؤسسة الرئاسة أو مجلس الوزراء، إذ عينت حركة حماس قضاة جددًا في المحاكم وقاضي قضاة بغزة، يأتمرون بأوامر حركة حماس. فكل القوانين والقرارات التي صدرت عن الرئاسة، لم تُطبق بغزة لاعتبارات سياسية مغلفة بفضاء قانوني، حيث تعقد كتلة التغيير والإصلاح البرلمانية التابعة لحركة حماس اجتماعات منفردة في المجلس التشريعي بغزة، وتقوم بإلغاء القرارات الصادرة من رئيس السلطة أيًا كانت.[16]
وأكد حسن الجوجو، رئيس مجلس القضاء الأعلى في غزة، بعد صدور القرار، أن القانون المُطبّق في قطاع غزة قانونُ حقوق العائلة وما زال ساريًا في المحاكم الشرعية، إلا أنه أيّد رفع سن الزواج، موضحًا أن هذا الأمر بات حاجة مجتمعية.[17] وفي الواقع، من الممكن رفع سن الزواج من خلال تعميم قضائي للمحاكم المختصة في قطاع غزة يصدره الجوجو.
تبقى الاعتبارات السياسية هي السائدة، حتى وإن تعلق الأمر بحاجات المواطنين. ففي سابقة تعديل قوانين لصالح النساء، أصدر الرئيس محمود عباس قرارًا بقانون رقم (10) للعام 2014 معدلًا لنص المادة (98) من قانون العقوبات؛ ومضمون التعديل إلغاء العذر المخفف كلما وقع الفعل على أنثى بدواعي الشرف، إلا أن المحاكم المختصة في قطاع غزة لم تلتزم بالقرار. وكذلك كان هناك تعميم قضائي يقضي برفع سن الحضانة حتى سن 15 عامًا في العام 2005. إلا أنه في ظل الانقسام ألغي العمل بهذا القرار، وعاد سن الحضانة لما كان عليه بموجب قانون العائلة.[18]
خاتمة
تأتي أهمية قرار رفع سن الزواج رغم الاستثناءات التي يمكن التغلب عليها بتحديد السلطة التقديرية للقاضي، وما يشكله من ضمانة لكلا الجنسين. وفيما يخص تطبيق القرار بقطاع غزة، فيمكن تطبيقه إذا خضع القرار للاعتبارات المجتمعية، أما إذا تغلبت الاعتبارات السياسية فمن الصعب تطبيقه.