دُعيت مساء يوم السبت 18 (18 كانون الثاني/ يناير) الجاري؛ لحضور لقاء خاص ينظمه معهد "بيت الحكمة للاستشارات وحلّ النزاعات" مع وزير الدولة السابق لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في وزارة الخارجية البريطانية وعضو البرلمان البريطاني عن حزب المحافظين منذ عام 2001 "اليستر بيرت"؛ للحديث عن الأوضاع المحلية والاقليمية لقطاع غزة. كان اللقاء في فندق المتحف المطلّ على بحر مدينة غزة، وكانت الأجواء ماطرة وملبّدة بالغيوم، فيما يبدو أنه طقس يحمل الإجابة على السؤال المتعلق بمستقبل القطاع.
وصلت متأخراً وجلست في الصف الخلفي من الحضور، الذي وجّه كلّ تركيزه على سماع الصوت الصادر من جهاز الترجمة الموضوع أمام كل شخص. جلست مترقباً سماع اعتذار ربما عن المسؤولية التاريخية لبريطانيا عن معاناة الفلسطيني وتشريده، وإنشاء الاحتلال. قبل أن يخبرني صوت من داخلي: "هذا وزير سابق يا مسكين، ولا قيمة لمواقف المتقاعدين".
لكن عقلي كان يخبرني بأنه لا يمكن أيضاً أن نتجاهل هذه المواقف، وتذكرت حينها أن شاعر المقاومة محمود درويش كتب قصيدة عن "أثر الفراشة"، قال فيها إنه لا يُرى ولا يزول، وباطننا الدليل. وأن الجبال من حصى. فأدركت أن مراكمة المواقف قد تحدث فارقاً، نحن بأمسّ الحاجة له في مواجهة مشاكلنا الكبيرة. تماماً مثل كسب موقف هذا الوزير الذي قال "لن تكون هناك إسرائيل بدون دولة فلسطينية".
يروي أنه عندما كان وزيراً وممارِساً للسياسة، حاول أن يجعل بريطانيا ترفض إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب القدس عاصمة لإسرائيل، وأنه ليس مع خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي، وهي القضية التي غادر من أجلها البرلمان. هو مقتنع بأن بريطانيا يجب أن تبقى صوتاً مستقلاً.
استعرض الوزير ما يؤشر إلى درايته بكل حالتنا السياسية وتشابكاتنا، فأبدى قناعته بأن موافقة الرئيس محمود عباس على إجراء انتخابات فلسطينية جديدة "يمكن أن تحدث تغييراً في المشهد"، فقال "هناك جيل فلسطيني شاب يريد شيئاً مختلفاً، ويجب أن نبقى مسؤولين ونواصل محاولاتنا لإنهاء الانقسام". كان ذلك ردّاً على مداخلات بعض الحضور، التي لم ترق لي صراحة، والتي تطلب مساعدة بريطانيا في إنهاء الانقسام الفلسطيني. فظهرنا كمن نسي المثل العربي "قلّع شوكك بيدك".
وإدراكاً منه بالموقع السياسي والرئيسي لحركة حماس في المشهد الفلسطيني منذ العام 2006، ينقلب الوزير "بيرت" على الموقف الرسمي لبلاده من الحركة، فيقول إنه "يجب أن نقوم بتغيير الصورة النمطية تجاه حماس". ويضيف أنه عندما كان وزيراً لم يكن باستطاعته القدوم إلى غزة ومقابلة الحركة بسبب تصنيفها إرهابية. لكنه قال إن "هناك بعض الحكومات الأوروبية التي يمكن أن تتحدث مع حماس.. فأنتم بحاجة إلى هذه الأصوات".
عند الحديث عن هذا الأمر، لاحظت انتباه جميع الحضور لهذا الطرح من السياسي البريطاني، خريج كلية "سانت جون"، التي هي أغنى كلية بجامعة أكسفورد في بريطانيا. ولم يكن حديثه مجرد انفعالات بقدر ما أنها حقيقة ناجزة، بات من الضروري التصريح بها.
ويخدم ذلك أن الحركة تقدّمت خطوة في هذا الاتجاه من خلال الوثيقة السياسية التي أطلقتها في عام 2017، وهي جزء من أدبيات حماس الفكرية والسياسية في مراحلها المختلفة، والتي ورد في الجانب الإنساني والدولي منها بأن "حماس تؤمن في علاقاتها مع دول العالم وشعوبه، بقيم التعاون، والعدالة، والحرية، واحترام إرادة الشعوب".
على الجانب الآخر، يؤمن الوزير "بيرت" بأن "الناس في إسرائيل لديهم وجهات نظر تختلف عن وجهات نظر السياسيين"، لكن ما ندركه نحن أن المجتمع الإسرائيلي يتّجه نحو اليمين المتطرف سياسياً ودينياً، وأن هذا التوجّه كان نتيجته انعدام فرص إقامة دولة فلسطينية. لذلك فإن الناس والسياسيين في إسرائيل لديهم وجهة نظر واحدة: لقد اتفقوا على اليمين المتطرف.
جاء حديث الوزير في سياق الاستدلال على إمكانية حلّ الصراع ووجود فرص لذلك، مع تمسكه بفكرة أن بريطانيا لا يمكن أن تعتذر عن وعد بلفور. فبدا لي أن استحضار جذور الصراع وأسبابه ومسؤولية المجتمع الدولي وبريطانيا خصوصاً عنه، وإبقاء كل ذلك في ذاكرة السياسيين هو أمر إيجابي يخدم الرواية الفلسطينية، حتى إن الوزير "بيرت" ختم حديثه بتوجيه شكر للضيافة والاستقبال فقال: "كان بإمكانكم أن تستقبلوني بوثيقة وعد بلفور على باب القاعة، وتطلبوا مني أن أعتذر أو أغادر" لكنه ابتسم وقال إنه يتطلّع للعودة إلى غزة مرة أخرى.