لا تخلو الصورة المتداولة لقاضي قضاة فلسطين الوزير محمود الهباش مع صحافيين إسرائيليين في مطعم بمدينة رام الله تعود ملكيته لقيادي فتحاوي، من أي دلالات ذات مغزى سياسي، وفي توقيت حساس، بخلاف كل اللقاءات والمشاهد التنازلية لقيادات السلطة وحركة فتح.
يتمتّع الهباش بشبْه رمزية دينية في الضفة الغربية المحتلة بحكم الموقع الوظيفي أولاً، ثم تصدّره وإدارته للخطاب الديني هناك، بمعزل عن المضامين التحريضية له، والأهم أنه "خطيب الرئيس" الذي يطلّ علينا أسبوعياً من مسجد المقاطعة وعبر التلفزيون الرسمي. وهذا أمر لا يمكن إنكاره، وهو الدلالة الأهم والمبرر الرئيسي لإخراج الصورة في هذا التوقيت، بل يكمن السرّ كله في التوقيت.
لم يصدر عن الهباش أو الموقف الرسمي أسباباً منطقية لجلوسه مع الإسرائيليين، وما علاقته بذلك في حضور "لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي" التي شكلت بقرار من رئيس السلطة محمود عباس عام 2012، وتعتبر من دوائر منظمة التحرير، ومهمتها كما تقول المنظمة "التواصل مع المجتمع الإسرائيلي؛ بهدف نقل الموقف الفلسطيني لهم".
لكن الفصائل والقوى الفلسطينية، بما فيها المنضوية ضمن المنظمة، تعتبر اللجنة أداة من أدوات التطبيع، وتطالب دوماً بحلّها، فترد اللجنة بكل غرابة وإصرار على تجهيلنا، بأنه "يجب التفريق بين التطبيع مع الاحتلال وبين العمل على الجبهة الإسرائيلية الداخلية"، وهو الرد الذي ناور في إطاره الهباش بتبريره اللقاء بأنه "في إطار سعي القيادة الفلسطينية لمواجهة مؤامرة صفقة القرن"، كما لو كان طبيباً يتحدّث إلى مريض.
تشير الصورة إلى سقوط آخر قلاع التحريم للقاءات التطبيع، وفتوى دينية شاذة للسلطة السياسية بجواز هذه اللقاءات وفق "الضرورات التي تبيح المحظورات"، والتي أجازت للهباش واللاحقين به ارتكاب المحرم دينياً ووطنياً، وقد حرص قاضي القضاة أن يقرر ذلك قولاً وفعلاً على مائدة في مطعم راقي وسط مدينة رام الله، عن قناعة وإدراك كاملين، فهو القائل إنه "ليس مدّاح ولا بشاعرٍ، إنما لدي قناعات سياسية ودينية ووطنية".
قد لا تهم الفتوى في واقع تنازلي جاءت فيه متأخرة، وقد تبدو أمراً ليس ذي بال لكثيرين باعتبار ما جرى لقاء يضاف إلى سلسلة لقاءات تطبيع علنية وسرية، لكن قناعتي أن ما جرى هو عملية استدعاء للرمزية الدينية لمستشار الرئيس للشؤون الدينية والعلاقات الإسلامية، واستعمالها؛ باعتباره وقت الانقلاب على الثوابت.
تمتلئ صفحات التاريخ بالكثير من المواقف التي كان يعذّب فيها قضاة ومشايخ وأئمة؛ لرفضهم تلبية رغبات حاكم أو طامع في الحكم، يحاول تغيير وعي الشعب ومفاهيمه عبر فتوى أو تصرّف يظهر فيه العلماء، فيظفر بالإجازة.
حدث ذلك في وقت قريب، حين قرّر الرئيس المصري الراحل أنور السادات الوقوف في الكنيست الإسرائيلي خطيباً عن السلام، فأصدرت دار الإفتاء المصرية فتوى في العام 1979، تجيز فيها معاهدة كامب ديفيد، وعقد اتفاقية سلام مع إسرائيل. فكانت الحاجة حينها لرأيي ديني ينتصر للاتجاه السياسي للدولة، تسيطر من خلاله أيضاً على الشعور الوطني.
كما لا يختلف الهباش عن مفتي عربي وقف إلى جانب رئيسين؛ أحدهما استعمله لفتوى تجيز القتل والثاني استعمل رمزيته في تثبيت شرعيته، ثم من فرط إعجابنا، منحه الرئيس عباس "نجمة القدس". ولا أستبعد أنها مشورة الهباش؛ تقديراً لمعلمه.
أريد أن أعترف بأنني لاجئ فلسطيني قبلت مضطراً بشبْه الرمزية الدينية للهباش، التي ستحطّم فتواه ما تبقّى منها؛ لكنني أكفر به وبفتواه التي تخلو من أي قداسة دينية، بل ثبت لديّ بأن غزة كانت مخطئة حين سمحت لبعضهم بالهروب؛ كي تتخلّص من الرذيلة.