قائمة الموقع

مقال: في رحاب آية

2010-10-07T15:01:00+02:00

د. يونس الأسطل

(تقديم الاقتصاد على مقاومة الإفساد مضيعة للبلاد ومهلكة للعباد)

(  لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(

(التوبة:42)

هَدَّد عباس بالاستقالة؛ إن لم يستجب الصهاينة لمطلب تمديد تجميد الاستيطان ثلاثة أشهر على الأكثر؛ لعله بذلك يسجل هدفاً في مرمى النتن ياهو، ويتغنى به في الإعلام، مع أن شيئاً على الأرض لن يتغير، فالمفاوضات غطاء لتسريع الاستيطان، وقد تفاوض مع أولمرت وليفني ثلاث سنين، ولم يتباطأ تسمين المستوطنات، وانتزاع الأراضي، والمضيُّ في إقامة الجدار يوماً واحداً، فما الذي استجدَّ حتى يجعل الاستمرار فيه عقدة المنشار؟!.

دعونا نفترضْ أن عباس قد استطاع لَيَّ ذراع النتن ياهو، وأوقف الاستيطان بالكلية، فلم يعد الاحتلال قادراً على ضرب مسمار واحد فيها، فإلى أين ستقود المفاوضات؟، هل هناك أكثر من دور  لحدٍ، أو كرزاي وأشباههما، وفي أحسن الأحوال السلام الاقتصادي، وتحسين أنواع العلف المقدم للشعب الفلسطيني؟!.

إن الذين رضوا بالحياة الدنيا، واطمأنوا بها، سيرون ذلك إنجازاً عظيماً، حين تُخَفَّفُ الحواجز، وتَخِفُّ وطأة الحصار، ويستطيع كثير من الناس الضرب في الأرض، والمشي في مناكبها، وابتغاء الأرزاق.

إن ذلك يُرضي المنافقين الذين إذا قيل لهم انفروا في سبيل الله اثَّاقلوا إلى الأرض؛ رضىً بالحياة الدنيا بديلاً عن الآخرة، وهم الذين تخبر عنهم آية المقال أن الخروج يوم تبوك لو كان لعَرَضٍ قريب من الدنيا، أو كان لسفرٍ متوسط المسافة، لا يحتاج إلى جُهدٍ كبير، أو غياب كثير، لما تثاقلوا، ولا تباطؤوا؛ بل لَأَتَوْا إليه مذعنين، وكانوا فيه من الراغبين، ولكنْ لمَّا بَعُدَتْ عليهم الشقة،واتسعت المسافة، وكان نفيراً في الحَرِّ، مع قلة الظَّهْرِ، وكثرة العدو، وغير ذلك من وجوه العسرة، لم يُعِدُّوا للخروج عُدَّتَه، وكره الله انبعاثهم، فَثَبَّطهم، وقيل اقعدوا مع القاعدين، فقد ارتابت قلوبهم في وعد الله بالنصر، فهم في ريبهم يترددون.

إن تعلق المنافقين بالدنيا وزينتها قد دفعهم إلى إكراه فتياتهم وإمائهم على البغاء، والتكسب بالفواحش؛ فقد كان لعبد الله بن أُبَيٍّ بن سلول مملوكات، وقد فرض عليهن إتاواتٍ يومية، وأوجب على كل واحدة منهن أن تضع في يده آخر النهار مبلغاً من المال، وإلَّا فإن عقاباً أليماً في انتظارها؛ قال سبحانه فيهم:

"وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ" النور(33).

والمغفرة هنا للمكرَهات، لا للمنافقين عبدةِ الدرهم والدينار.

لذلك فإن المنافقين لا ينفقون إلا وهم كارهون، كما كانوا يلمزون النَّبي صلى الله عليه وسلم في الصدقات؛ فإن أُعْطُوا منها رضوا، وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون.

إن افتتان المنافقين بزهرة الحياة الدنيا هو عين ما تَوَحَّلَ فيه اليهود، بعد أن انحرفت ذراريهم، وافْتُتِنوا بالنساء؛ قال جل جلاله:

"فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ" الأعراف(169)؛ والآية في ذم اليهود الذين قيل لهم: كونوا قردة خاسئين، وجَعَلَ منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت.

إن عشق اليهود للدنيا جعلهم أحرص الناس على حياة، وحملهم على أكل الربا، وعلى أكل أموال الناس بالباطل، وقد جَرَّ عليهم ذلك كثيراً من العقوبات، والمضايقات التشريعية، وقد قال عز وجل:

"فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً ،وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ" النساء (160،161)

إذاً فماذا نرجو أن نأخذ منهم بالمفاوضات المباشرة أو المكاشِرة، وهم الذين غُلَّتْ أيديهم، ويبخلون بما آتاهم الله من فضله، وإذا كان لهم نصيب من المُلْك لا يؤتون الناس نقيراً، بل يحسدون الناس على ما آتاهم من فضله، ويتطلعون إلى سلب ما في أيديهم؟!.

إن الصحابة يوم بدرٍ لما اختلفوا في الغنائم أيُّهم أحقُّ بها، ولم يكن تقسيمها قد نزل، نزعها الله جل وعلا من أيديهم، وأمرهم أن يتقوا الله، ويصلحوا ذات بينهم، فإن ذلك رأس مالهم، فالقلوب المؤتلفة، والبنيان المرصوص للصفوف، هو الذي كان سبباً للنصر والغنيمة؛ قال سبحانه:" يسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ" الأنفال(1)

ثم عاتبهم على اختلافهم في الغنائم، وقد كان فريق منهم كارهين للقتال، ويجادلون في قرار المجابهة من بعد ما تبين أنه لا مناص منه، فقد وعدهم الله إحدى الطائفتين أنها لهم؛ إما العير، وإما النفير، والعير قد أفلتت، فلا سبيل لإدراكها، ومع ذلك فلا زالت نفوس بعضهم تتمنى أن يظفروا بها، وأن يَسْلَموا من المواجهة مع الجيش والشوكة، هذا ما أرادوه لأنفسهم، غير أن الله أراد لدينه أن ينتصر، ولأوليائه الصالحين أن يَعِزُّوا، وإذا كانت العير قد فاتت بما معها من الميرة والمال؛ فإن البديل هو الغنيمة والأنفال، والنصر زيادة، فشتان بين تدبير البشر، ومكر صاحب المشيئة والقدر، فقد أراد أن يُحِقَّ الحقَّ بكلماته، ويقطع دابر الكافرين، ليحق الحق، ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.

لقد كان الواجب يقتضي أن يعلموا أن الحسابات المادية ليس لها حقُّ الأولوية في الاهتمام والاجتهاد، إنما كسر شوكة العدو، حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كلهُّ لله، ومع ذلك فقد وقعوا في الاجتهاد الخاطئ في شأن أسرى قريش السبعين، فقال الذين غلبوا على أمرهم:  نأخذ منهم الفداء، ونفك وَثَاقَهم؛ لعلهم يوماً يُسْلِمون، وحتى تَسهم الفدية في دعم بيت المال، وتحسين الوضع الاقتصادي، فعاتبهم ربهم، وهَدَّدَهم في آنٍ واحد؛ قال عز وجل:

"مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" الأنفال (67،68)

من هنا فقد نزل بهم العقاب يوم أُحُدٍ، بعد أن نصرهم الله تصديقاً لوعده، وانهمك المقاتلون في جمع الأسلاب، فأوجس بعض المنتصبين على جبل الرماة، المكلفين بعدم النزول حتى يؤذن لهم؛ أن يفوتهم نصيبهم منها؛ إذا لم يُسهموا في جمعها، وهذا خللٌ في نية الإخلاص لله، والتعلق بالمغفرة والجنة، فأصابتهم وعكة عسكرية، قال الله بشأنها:

"وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ .." آل عمران (152)

وقد احتاج الأمر أن يتكرر العتاب تارة أخرى حين كان بعض الصحابة في غَزاةٍ، فمرَّ بهم رجل ظنوه مشركاً، لكنه ألقى عليهم تحية الإسلام، فلما قاموا إليه نطق بالشهادتين، فقالوا: ما تلفظ بهما إلا تَقِيَّةً، فقتلوه، واستاقوا غنمه، فأنزل الله فيهم:

".. وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ.." النساء (94)

فإذا عدنا من هناك إلى هنا، وجدنا (عباس) متفرداً بقرار المفاوضات المباشرة، وإن كان يتستر بقرار اللجنة التنفيذية التي باتت صورية، كما المنظمة نفسها التي تُستدعى من الكهف والرقيم كلما استدعى الأمر مزيداً من التنازل، الأمر الذي أغرى الجبهة الشعبية بتعليق حضورها لاجتماعات تلك اللجنة، ولستُ أدري هل يثبتون على ذلك، أم أن حركة فتح التي تتهمهم اليوم بالانقلاب والحمساوية، لو حجبت عنهم مخصصاتهم، أو دفعت لهم أكثر،  يعودون إليها صاغرين، وإن غداً لناظره قريب؟!.

إنني أجزم بأن السلام الاقتصادي لن يتحقق مع قومٍ بُغاةٍ ضَنِينين، وعندئذٍ سيكون التنازل عن كل فلسطين بلا ثمن، اللهم إلا دماء الشهداء والقادة، وأنين الأسرى وأهليهم، وعذاب المكلومين والمشردين، وهو ما يُبَشِّرُ بتصاعد المقاومة والجهاد في سبيل الله، وهو الكفيل بقلب الطاولة على رؤوس الصهاينة والمتصهينين، ولتعلمن نبأه بعد حين.

اخبار ذات صلة
مقال: في رحاب آية
2016-05-05T05:59:15+03:00