لمى خاطر
يحق للفلسطيني العادي غير المطلع على ما يجري في كواليس الحوار الفلسطيني الأخير بين حركتي حماس وفتح أن يفغر فاه اندهاشا وهو يتابع بعض التسريبات المتعلقة بهذا الملف!
ويحق للمجاهد والسياسي والعالم والطالب الجامعي، ولكل من لسعه برد الزنازين في سجون فتح، وخبر طرائقهم في التفكير، وأسلوبهم في التعامل، وما تم إحداثه على الأرض من تغيرات جذرية أرست دعائم أبدية للقطيعة أن يقف عاجزاً عن تفسير التطورات الأخيرة، وما وراء إعادة فتح ملف المصالحة بدون مقدمات منطقية أو وجود أدنى بوادر لصفاء النوايا أو ندم على ما فات من انقسام!
فهل يمكن أن يهبط الحس الوطني فجأة على فتح ليقنعها بملاحظات حماس على الورقة المصرية؟ وهل يمكن أن تتخلى القاهرة عن عنجهيتها وصلافتها السياسية فيما يخص ورقتها (التي صيرها إعلام النظام بقرة مقدسة لا تمسّ) لتنزل عند تحفظات حماس عليها؟ وهل تكفي أصلا ملاحظات حماس على الورقة للقول إن العقبة الكأداء في وجه مسيرة المصالحة قد تفككت؟ هل مشكلتنا مع ما يكتب على الورق ويوقع عليه الطرفان أم مع كلمة الميدان بكل تطرفها وتنكرها للوعود (تذكروا اتفاق مكة الذي أبرم قبل ثلاثة أعوام والسرعة القياسية التي انهار فيها، مع فارق أن عجلة الانقسام كانت في بداية مشوارها في ذلك الحين!)، وهل انتفت الأسباب التي ستحول دون تكرار الانقلاب على وريثه بصورة أسوأ وأكثر ضرراً على جميع المستويات السياسية والعسكرية والاجتماعية؟
من جهتي.. فقد توقفت مطولاً أمام تلك التسريبات المتعلقة بالأمن (هذا الملف الذي تسكن الشياطين في كل جزئية فيه)، فخبر يقول إن الملف الأمني في طريقه للحل، وآخر يقول إن فتح أوعزت لعناصرها الأمنية السابقة في غزة بالاستعداد للترتيب القادم، وللهاربين منهم بالعودة إلى القطاع، وثالث يقول إن البحث في الملف الأمني سيؤجل لما بعد التوقيع على احتفالية المصالحة!
وبغض النظر عن مدى صحة أو دقة مثل تلك الأخبار أو الشائعات، فإن العامل الأمني هو جوهر قضية الانقسام والعقبة الحقيقية في وجه المصالحة سواء من حيث صعوبة تسويته، أو ما يتعلق بالافتراق الشامل بين بنيتيه في كل من غزة والضفة، واختلاف العقيدة القتالية لطرفيه، والأولويات الأمنية وطبيعة الهدف ومحاور العمل وجهة الولاء.
من ناحية إجرائية فإنه سهل ومتاح في غزة إعادة تشكيل الأجهزة الأمنية بدمج عسكريين سابقين فتحاويين فيها وحفظ حقوقهم، وضمان عدم المساس بهم في حال وقع الاختلاف من جديد، فهناك نظام مصر الذي يشكل ضمانة لهم وحاضناً وداعما، وهناك الجانب الإسرائيلي الذي سيسهل انتقالهم للضفة في حال وقعت أية واقعة ولم تكن نتائجها لصالحهم.
ولكن ماذا عن الضفة؟ حيث الاحتلال سيظل متكفلاً بتصفية أي تواجد أمني لحماس أو شبه مشاركة لها في أجهزة الأمن حتى لو كانت بمستوى وظيفة إدارية متواضعة! بل أين هي كوادر حماس الأمنية في الضفة؟ ومَن مِن أفراد الحركة مستعد لهكذا دور؟ فيما هو يعلم جيداً أن ظهره فيها سيبقى مكشوفاً حتى لو كتب على الورق مليون ضمان، وحتى لو توقفت فتح بالكامل عن استهداف حماس وعادت المياه السابقة لمجاريها، فهناك الاحتلال الذي سيبقى ماضياً في سياسة اجتثاث حماس إلى أن تفرغ المصالحة من أهدافها، وهو طرف لن يتم النظر إليه كلاعب لصالح فريق فلسطيني على حساب آخر، بل سيُنعت (وفق التناول الإعلامي النمطي لإجراءاته) كمعطل لجهود المصالحة وحسب!
أعتقد أن لدى المتفائلين – مع احترامي لشخوصهم- ثغرة في الفهم، أو لعل تطلعهم لثمار المصالحة غير الناضجة يُغيّب عن أذهانهم القضايا الجوهرية المتموضعة كعقبات في طريقها، ومع احترامي للقيادات الوطنية والمخلصة المتطلعة لرأب صدع الخلاف؛ إلا أن الرأي الأسلم في هذا الملف ينبغي أن يؤخذ من تجارب من عاركوا الاعتقال والتعذيب في سجون السلطة على خلفية مقاومة الاحتلال، فهؤلاء تشكلت لديهم بصيرة ثاقبة مستخلصة من وحي تجربتهم المريرة، أما من لم يعارك السجون ولم يقف بنفسه على مفاصل مشروع التنسيق الأمني في الضفة، ويعي متانة التزام الأجهزة بأمن الاحتلال؛ فطبيعي أن يستهين بالعقبات الأمنية أو يستسهل إمكانية حلّها.
مسألة الأمن حساسة وخطيرة للغاية، وأن يتم ترتيب وضع غزة أمنيا ويؤجل في الضفة فهذا يعني أن طرح المصالحة وراءه أهداف مشبوهة، وأعتقد أن افتراض سوء نية فريق رام الله في هذا الملف تحديدا ينبغي أن يتقدم على كل شيء، فهكذا علمنا التاريخ القريب جداً عشية اتفاق مكة، وهكذا تقول الفروق الجوهرية بين ساحتي الضفة وغزة، وبهذا تشي عقيدة الولاء الجديد لأجهزة فتح في الضفة.
قضية الولاء ينبغي أن تحسم قبل كل شيء، وولاء أجهزة أمن الضفة ليس للقضية الوطنية بأي حال، وإلا لما شهدنا عمليات اغتيال المقاومين ومطاردتهم وتعذيبهم حتى الموت بغض النظر عن مكانتهم ووزنهم أو حتى تنظيمهم!
وسأختصر كل الهواجس لأقول: أخشى ما أخشاه أن تكون ورقة المصالحة بوابة لعودة فريق أوسلو لغزة وإقامة بنية أمنية تحتية فيها تسهّل عملية الانقلاب في حال شن جيش الاحتلال هجوما عليها.
وهمسة في أذن من يحلمون بوطن يرفل في ثوب الشراكة السياسية والحكم الديمقراطي النزيه، وبتقاليد سياسية وإدارية سليمة في مرحلة ما بعد المصالحة: نحن ما زلنا تحت الاحتلال، وهذا يعني أن للاحتلال أولوياته، وأن لأوليائه أولوياتهم، وأن لأصحاب النهج المقاوم أولوياتهم كذلك، وحين يكون الاحتلال لاعباً أساسياً في المنطقة الواقعة تحت سيطرته المباشرة ينبغي ألا تحلموا بشأنها أكثر مما يجب، وألا تحيدوا عن الأولوية المثلى التي ينبغي أن تحكم خطواتكم فيها!
حين نفذت حماس عملية الوهم المتبدد عقب فوزها في الانتخابات شنت إسرائيل حربا شعواء على قيادتها السياسية في الضفة وحيدتها عن التأثير في المشهد السياسي، ولا زال هذا الحال قائماً حتى اليوم، فحماس في الضفة مقصاة من المشهد السياسي والميداني بقرار إسرائيلي وليس فقط بقرار فتحاوي، وليس مسموحاً لها أن تعود لواجهة التأثير السياسي من جديد إلا إن أحدثت خلخلة في ثوابتها وأعادت ترتيب أولوياتها بما يسكّن حدّة الغضب الإسرائيلي والعالمي عليها!
ستظل الضفة يد حماس المؤلمة، لأنها تحت الاحتلال، ولأنها ستبقى بدون ضمانات فعلية، ولاستحالة مشاركة حمساوية قوية ومؤثرة في بنائها السياسي والأمني. أما غزة؛ فإن أي ترتيب أمني توافقي سيجري فيها دون حدوث انقلاب فتحاوي داخلي على عقيدة التنسيق الأمني والارتهان لأموال أمريكا والمانحين سيعني أن حماس كمن يدخل الدب إلى كرمه! وأعتقد أنه يعزّ على كل المخلصين أن يروا – بعد كل التضحيات ومجالدة المستحيل- انهيار البنيان الأمني والعسكري القويم وعدوة السوس إليه لينخر أساسه!