لا تتقن الخالة أم عاصف البرغوثي التكلف في التعبير، تعبر عما يدور في خاطرها ببساطة المرأة التي لم تنه سوى مراحل تعليمها الأولى فحسب، ولكن مدرسة الحياة أعطتها بدون ورق فصاحة اللسان، وقوة الكلمة، وصرامة الموقف، وأضافت إليها مأساة عاشتها عبر عقود قوة على قوتها، فورثت عن أمها وحماتها عهدا قديما وأكملت الطريق، حتى أصبحت شقيقة الأسرى وزوجة الأسير وأم الأسرى.. وأخيرا أم الشهيد.
تعرفنا على طريق سهير البرغوثي حينما حاورتها الرسالة عبر الهاتف فدخلت الى بعض تفاصيل حياتها لعلنا نعرف بعضا من أسرارها.
وراثة
"أنا أم عاصف البرغوثي، زوجة عمر البرغوثي، أم الشهيد صالح، وأم البطل عاصم، وأم الأسير الشبل محمد آخر العنقود، وشقيقة الأسير لطفي البرغوثي، أولادي أربعة وبناتي اثنتان"
هكذا بدأت الخالة أم عاصف تعريف نفسها باختصار، وكأنها نسيت أن اسمها سهير البرغوثي، فعرفت نفسها بأبطالها المخلدين، وبأمها التي ورثت عنها صبرها حيث أنها عاشت في بيت فيه أربعة أشقاء أسرى، وأكملت طريقا مع رجل اختارته بل وتمنته على حد تعبيرها وهو المناضل عمر البرغوثي.
تنقلت أم عاصف منذ كانت ابنة السابعة عشر بين السجون، حيث أسر زوجها فور زواجها، وبينما كانت الفتيات في عمرها يفرحن بقضاء أجمل ليالي العمر مع زوج شاب، تنقلت سهير البرغوثي بين السجون مع بداية رحلة حكم المؤبد لزوجها عمر البرغوثي، الذي خرج بعد عشر سنوات في صفقة تبادل وأنجبت منه ستة أبناء.
أسيرة لشهر
بعد استشهاد صالح، جن الاحتلال وهو يبحث عن شريكه عاصم البرغوثي، فأقدم على اعتقال 45 شخصا من المقربين للأسرة من عائلة البرغوثي، فأضحت قرية كوبر ساحة رعب واعتقال طالت السيدة سهير البرغوثي، التي قضت شهرا كاملا في الأسر نصفه في عزل الزنزانة البرادة وتقول: حينما كنت بالأسر لوحدي كانت تتعجب الأسيرات من هذه المرأة التي تدخل الأسر بعد أيام على استشهاد ابنها، من أين لها هذه القوة؟! وكيف تعطيهن دروسا في الصبر والثبات.
وتتابع: قضيت أيام طويلة من التعذيب في العزل، بل وبعد خمسة عشر يوما وضعت في زنزانة حديد لا تتجاوز النصف متر، أقدامي مكبلة بيديّ ومحشورة في صندوق من حديد في العراء حتى يقرر السجان إلى أي معتقل سيأخذني، فكانت تلك الساعات أصعب لحظات قضيتها لشدة برودة الزنزانة الحديدية التي تشبه الصندوق!!
وتلفت أم عاصف إلى خوف (إسرائيل) الدائم من أهالي الأسرى واقدامها على اعتقال آباء منفذي العمليات خوفا وحقدا وسادية وتضيف: كان زوجي في السجن وابني في السجن واستهدفت بالاعتقال أنا وأبنائي وبناتي على مدار سنوات سجن أبو عاصف وكل ذلك دليل على خوف (إسرائيل) من أهالي الأبطال.
وتشير إلى أن هناك الكثير من العائلات في الضفة لا تعلم بما يدور مع عائلة البرغوثي، وظيفتهم الأكل والشرب والذهاب للعمل والنوم ليلا بكل هدوء، مضيفة: لكن، ليس لأجل ذلك خلقنا نحن الفلسطينيون!
وتقول أم عاصم: حتى بعد أن أفرج على عمر في المرة الأولى، كان يعتقل اداريا في كل مرة يعلن فيها عن أي عملية، فإذا قامت عملية في طولكرم يعتقلون أبو عاصم، وفي الخليل يعتقلون أبو عاصم وفي أي مكان يعتقلون أبو عاصم، وكأن أبو عاصم أصبح كابوسا مرعبا بالنسبة لهم، على حد تعبيرها.
لا شيء يخيفني
وعن صلابة القلب تتحدث أم عاصف: حينما يختار الانسان يجب أن يتحمل نتيجة اختياره، وقد اخترت أبو عاصم زوجا لي، وهو اختار المقاومة وأنا سأحافظ على اختياري وسأدفع الثمن غاليا، ولا شيء يخيفني أو يهزني.
تكمل زوجة البطل: في أول مرة سجن فيها مؤبدا مدى الحياة كان معي عاصف فقط وحينما خرج في تبادل انجبت عاصم واقبال، ثم طورد لسنتين ونصف وفي كل يوم يأتون لتفتيش البيت، ثم أنجبت صالح ويافا في اقل من سنتين ثم اعتقل لثلاث سنوات ونصف وبعدها طورد لثلاث سنوات أخرى، وقضى أبو عاصف عمره كله مطلوبا ومتهما ومطاردا، ولأنه كذلك ورث أبناؤه عنه هذه القوة.
وتضحك ام عاصف مستذكرة: حينما كنت صبية وأجلس مع صديقاتي المستمتعات بحياة رغيدة في ظل ازواجهن يتعاطفن معي ويتألمن لمصابي فأقول لهن: "رسالة من أبو عاصف في السجن بتسوى حياتكن كلكن".
وتعتقد أم عاصف أن لا شيء هزها من كل تلك الأحداث، وهذه قوة خفية ونعمة لا يعطيها الله للجميع كما تقول.
فعندما كان ابنها عاصم محكوما بعشر سنوات بدأت تبني له بيتا على أمل أن تزوجه وتفرح به بعد انقضاء محكوميته، ولكن عاصم اختار طريقا مع صالح بعد خروجه من السجن وانتقم لشقيقه الشهيد فورا.
تضيف: بنيت له بيتا ليس له شبيه في كوبر كلها، حجر على حجر، وحينما أتت الجرافات وهدمت البيت بعد اعتقال عاصم، أنزل الله بردا على قلبي، وشعرت ببساطة أن هذا البيت لم يكن لابني يوما ولا أعرفه".
الذكريات مؤلمة
وأكثر ما يؤلم أم عاصف البرغوثي هو تلك الذكريات التي تتوالى أمام امرأة أبناؤها في الأسر، وزوجها في الأسر وأشقاؤها في الأسر، بل وشقيق زوجها الأسير نائل البرغوثي هو صاحب أكبر مدة اعتقال في التاريخ بل في العالم كله.
تقول المناضلة أم عاصم وهي تقف بكل شموخ لتقدم تحيتها العسكرية كل صباح أمام صورة ابنها عاصم الذي حكم قبل أيام بأربعة مؤبدات ولشقيقه صالح الذي استشهد قبل سنتين: أحفادي يهونون عليّ المصاب الجلل فأنا الآن لديّ خمسة عشر حفيدا كلهم قريبون مني ومن جدهم وأقربهم شبها الى جده هو حفيدي قيس ابن الشهيد صالح فهو يشبهه في كل طباعه.
وتستذكر السيدة سهير في ختام مقابلتنا حياة والدة عمر "حماتها" التي تقول: أنا على عهدها باقية ولن أتنازل حيث تذكرت موقفا لها قبل وفاتها بأيام حينما سمح لها السجان الإسرائيلي بلحظة وداع لابنيها المعتقلين عمر ونائل البرغوثي، فسمح لها بدخول المعتقل في سيارة اسعاف، في لحظة وداع بكى لها حتى السجان الذي شاهدها وهي تقول لهما: "هذا لقاء وداع يمه يا نائل، يمه يا عمر، اوعوا تسيبوا بعض، درهم شرف ولا بيت مال يمه، اوعوا تنخوا وتتعبوا يا عمر".
وهكذا أم عاصف التي روت هذه القصة، ومن بين دموعها قالت: وأنا على عهدها باقية.