زواج الإكراه .. خسارة ومرارة للشريكين

قاض: لو عبرت الفتاة عن إكراهها فلا يتم العقد

شرعي: لا يجوز لولي الأمر أن يكره ابنته على الارتباط بمن لا ترغب

اجتماعي: الأهالي يكرهون فتياتهم للحفاظ على امتداد العائلة

قانونية: الإكراه إجراء غير ظاهر للقانون

شؤون المرأة: لدينا خطط كافية حال ورود شكاوى

غزة – خلود نصار "الرسالة نت"

ما زالت تذكر غدير يوم جاء والدها ليخبرها أنه قرأ فاتحتها على صديقه عصام الذي يكبرها 20 عاما على الأقل وكيف أنه لم يترك لها مجالا لإبداء موقفها.

أفكارها طاردتها .. دراستها , عائلتها , صديقاتها, عمرها الذي لم يتجاوز 15 عاما .. لكن خوفها من والدها كان يمنعها من الرفض، خاصة عندما يوسعها ضربا أو يحرمها من دراستها بحجة أنه أعطى وعدا لصديقه العزيز الذي" سيعيشها بنعيم لأنه غني و شغله بدخل دهب ".

ففي اليوم الذي اتفق الوالد والزوج على تفاصيل الزواج، ذهبت غدير إلى المحكمة و أمام القاضي افترستها نظرات والدها التي كانت توحي بالوعيد إذا رفضت الزوج فما كان منها حين سألها القاضي هل تقبلين بعصام زوجا لك إلا أن تجيب: "نعم" .

وينظر قضاة في المحاكم الشرعية إلى أن مجرد تعبير الفتاة عن إكراهها على الزواج فإن إجراءات عقد الزواج تتوقف, في حين قال علماء شرعيون أن الشرع لا يبيح لولي الأمر أن يكره ابنته على الزواج , بينما يعتبر اجتماعيون أن الأهالي يحاولون المحافظة على امتداد العائلة من خلال إجبار فتياتهم على الزواج .

لكن السؤال الذي يطرح نفسه: من يكبح جماح هذه المعضلة التي أرقت الفتيات في مجتمع محافظ لا يدع لهن المجال للتعبير عن آرائهن؟

عادت مطلقة

جرت العادة في مجتمعاتنا أن تقوم الأم بالخطبة لابنها و ذلك حسب مواصفات يطلبها في العروس التي يريد لتكون شريكة حياته، لكن بعض الأهالي يكرهون الفتاة على الاقتران برجل من اختيارهم، حتى لو لم تر فيه الفتاة الزوج المناسب، لأسباب قد تكون خلقية أو اجتماعية أو غيرها على اعتبار أنهم أكثر وعيا من ابنتهم. فإذا رفضت فإنهم يضغطون عليها للقبول إما بالتهديد بالقتل تخويفا لها أو منعها من دراستها، لان بنظرهم هذا العريس " لقطة ".

و لم يسلم بعض الشباب من الإكراه أيضاً، فقد يكون الشاب ضحية لزواج الأقارب الذي أصبح من العادات الاجتماعية السائدة، رغم رفض بعضهم أحيانا لفكرة الارتباط من ابنة العم أو الخال.

بدموع حاولت إخفاءها تقول غدير "أنا الآن مطلقة.. و السبب أهلي .. لأني أجبرت على الزواج "، فبعد عدة أشهر من عقد القران أخذها زوجها عصام إلى السعودية محل إقامة والديه ليقيما هناك و هي ما زالت في صدمة لم تستطع الخروج منها

تزوجا وعاشا عاماً من الهم والشقاء حسب تعبيرها لأنهما لم يشعرا بالانسجام معا نظرا لفرق السن , فلم تكن تعجبه تصرفاتها في بعض الأحيان مما يعرضها للضرب المبرح , و كثيرا ما كان يحرمها من الخروج و التواصل مع أهلها , مما حول حياتها إلى جحيم, وما زاد العبء عليها حسب تعبيرها أنها رزقت منه بطفلة بعد مضي عام من زواجهما, وبغضب و قهر رسم على ملامح وجهها الطفولي وفي يدها صورة طفلتها تكمل مروة "في النهاية بعد مشوار من المعاناة رجعت إلى أهلي مطلقة بعد أن وقعت تنازلا عن حقوقي و عن ابنتي التي لم تبلغ العامين بعد و الآن لا اعرف عنها شيئا " و تضيف " الأبشع من ذلك أنني ما زلت صغيرة، وأهلي الآن يحاولون تزويجي بمن يتقدم لخطبتي من العجائز والرجال المتزوجون، فحالتي زادت سوءا".

القريب أولى من

أما الطالبة الجامعية بسمة فتسترجع ذكريات معاناتها في زواج الإكراه قائلة: تقدم ابن عمتي لخطبتي ورفضت بشتى الطرق فانا طالبة جامعية وهو لم يتم دراسته الابتدائية فكيف سننسجم!"

لكن والدها قابلها بتعنيف شديد وتهديد: " أعطيت كلمة لعمتك... و القريب أحسن من الغريب" فما كان منها إلا أن قبلت لتحفظ ماء وجه والدها أمام عمتها و وجهاء العائلة حسب تعبيرها.

حاولت بسمة أن تتقبل زوجها كما هو رغم أنها صدمت فيه فتوضح أنه لم يكن يؤدي ما عليه من مسؤوليات كزوج فوجدته أبخل مما يمكن وصفه.

وتترقرق دموع بسمة و هي تقول " كنت أتمنى الارتباط بزوج ملتزم ذي علم" وكلما أشكو لوالدي لا يكون رده إلا " الجرح في الكف و لا حول ولا قوة لي" و تتابع بتنهيدة تشق أنفاسها "الله يسامح إللي كان السبب ... لا أستطيع أن أطلب الطلاق خوفا من المشاكل العائلية و محافظة على سمعتي".

أما الفتاة اليتيمة فدوى 25 عاما فتروي قصتها بقهر و ترجع شريط ذكرياتها .. تقول "أجبرني أخي الأكبر على الزواج من صديقه الذي كان مدينا له بمبلغ كبير، مستغلا وإخوته ضعف والدتهم ووفاة والدهم، و تتابع: " أخبرت أخي رفضي الزواج من صديقه فغضب مني وضربني " لكنه احتال علي بقوله " إن لم تقبلي بصديقي سيقتلني لأنه يريد مني مبلغا كبيرا لا أستطيع تسديده "

فتذكر بحسرة " اتفق مع صديقه علي .. حسبنا الله و نعم الوكيل " تزوجت فدوى و أنجبت طفلين تعيش معهما حياة سوداء من الفقر و البطالة لكنها تتساءل حاملة طفلها الرضيع بحضنها: ماذا أفعل؟ إن طلبت الطلاق فلمن سأترك أولادي؟!

لم تختلف معاناة الشاب أدهم 27 عاما في زواج الإكراه عمن سابقاته فيذكر قصته بغضب، حين كان صغيرا كانت عائلته تقول: " أدهم لسارة وسارة لأدهم " و هي ابنة عمه التي تصغره بعامين ويضيف: " عندما كبرت و أصبحت على قدر من الوعي لم تكن سارة هي فتاة أحلامي و كنت اعتبرها بمقام أختي فقط " و كان موقف والده عنيفا حين أخبره أدهم برأيه , فلم يكتف بغضبه و حرمانه من كل شيء بل طرده من المنزل و أخبره "إن لم تتزوج سارة لا أنت ابني ولا بعرفك ".

ويضيف:" لم يسمح لي والدي بالعودة إلا إذا غيرت رأيي" فما كان أمام أدهم من خيار سوى الموافقة على هذا الزواج.

آراء اختلفت

ويقول (أبو أحمد . ف) و هو أب لخمس فتيات "من حق الأهل اختيار الزوج المناسب لابنتهم لأنهم أعلم بمصلحتها و ما هو الأنسب لها".

ويتابع "إن الأهل دائما يبحثون عن الأفضل لابنتهم و أنا أجبرت ابنتي فعلا على الزواج بمن رأيته مناسبا لها و هي الآن سعيدة بحياتها و سأقوم بذلك مع البقية إذا كان ذلك المتقدم جيدا ".

و خالفتها (أم حسن) و هي أم لثلاث فتيات حيث أوضحت أن الشرع أعطى للفتاة الحق بإعطاء رأيها بالمتقدم لخطبتها ، و أضافت "من حقنا أن نفرح ببناتنا و نراهم بالثوب الأبيض لكن هذا لا يعني أن نكرههن على الارتباط بمن لا يردن".

وتعليقا على معالجة الإسلام لتلك القضية، وصف الدكتور ماهر الحولي عميد كلية الشريعة والقانون في الجامعة الإسلامية الزواج بالرباط المقدس بين الرجل و المرأة و استشهد بقوله تعالى: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها و جعل بينكم مودة ورحمة " وأوضح أن مهمة الزواج الرئيسية هي التكاثر و بناء أسرة مسلمة لذلك يجب أن يكون على أسس سليمة و يأتي الرضا بين الطرفين على رأس هذه الأسس و الذي يعد شرطا لصحة الزواج .

و يضيف الحولي "لا يجوز لولي الأمر أن يكره ابنته على الزواج بمن لا ترغب و فالشرع أعطى للفتاة الحق بأن ترفض إتمام العقد أمام القاضي إذا كانت مكرهة "

و دلل على ذلك بحادثة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم بأن فتاة اكرهها والدها على الزواج من ابن عمها , فذهبت للرسول عليه السلام و أخبرته بأنها مكرهة , فطلب الرسول صلى الله عليه وسلم فسخ العقد , لكنها بعد ذلك وافقت على هذا الزواج و قالت " إنما أردت أن أعلم نساء المسلمين ". وأوضح أن للمكره إثم يوم القيامة أما في الدنيا فالقانون لا يستطيع معاقبته .

و من المحكمة الشرعية يذكر القاضي زكريا النديم أن القبول الصريح ركن من أركان الزواج , فلو شعر القاضي ولو شعورا ضعيفا بان الفتاة مكرهة ولو من خلال ملامح وجهها عبوسها أو حزنها أو بكائها يكون له تصرف آخر فيقول: لو شعر القاضي أن الفتاة مكرهة ويسألها على انفراد مرارا و تكرارا عن رأيها و إذا أعربت الفتاة عن إكراهها على هذا الزواج فعلا لا يتم العقد، سواء كانت الفتاة بكرا أو ثيبا.

ويوضح النديم أن المحكمة قد تتعرض لحالات مخالفة لما ذكر , حيث يكون والد العروس هو الشخص الوحيد الرافض لهذا الزواج بخلاف رأي الفتاة و جميع أفراد عائلتها و هنا قد يطلب الخاطب من المحكمة التدخل لإقناع الوالد و يقول " نقوم بذلك إذا وجدنا الشاب على خلق ودين".

و في ذات السياق يقول: " في حال تزوجت الفتاة لا يمكنها بعد ذلك أن تطلب الطلاق من المحكمة بدعوى أنها أكرهت على الزواج و هنا يكون موقفها ضعيفا لأن الزواج تم برضاها فهي من وقعت على العقد و أقرت موافقتها بلسانها أمام اثنين من الشهود "

و يؤكد النديم على دور الأهل في اختيار الزوج المناسب الكفؤ من جميع النواحي العقلية والعلمية والعمرية و الاجتماعية و كذلك الدينية .

ومن جانبه أشار أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الإسلامية أمين شبير إلى أن القبول شرط أساسي في الزواج لتوفير التوافق النفسي بين الزوجين .

و ذكر شبير أن من أهم الأسباب التي قد تدفع الأهل إلى إكراه فتياتهم هي صلة القرابة للمحافظة على امتداد العائلة و كذلك عدم تفتيت الملكية و هو ما أسماه ( بالزواج الانطوائي ) و يرى شبير أن زواج الأقارب قد يولد بعض المشاكل العائلية و يزيدها سوءا و تفتيتا و حبذ الابتعاد عنه و دلل على ذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس" للتدليل على أن الزواج الخارجي أولى من زواج الأقارب.

و أضاف سببا آخر قد يدفع الأهل لزواج بناتهم و هو رد جميل لصديق أو مصالح مشتركة بين الأصدقاء أو طمعا في مال المتقدم، وهنا نصح شبير الأهل بتغليب العقل على العاطفة والحرص على مصلحة بناتهم وترك المجال لهن للاختيار.

وإضافة لما سبق أشار إلى ( زواج البدل ) الذي قد تكره إحدى الفتيات على القبول به بدافع البدل و الذي قد يتولد عنه مشاكل عائلية معقدة قد تؤدي بالطلاق في كلا الجهتين .

و أضاف " لا تعتبر أي من هذه الأسباب مبررا لإكراه الفتاة من قبل الأهل " .

وحدة الشكاوى

وتقول مدير عام التخطيط والمؤسسات في وزارة شؤون المرأة أميرة هارون أن بإمكان الفتاة التوجه إلى وحدة الشكاوى بالوزارة وتقديم أي شكوى مثل (إكراهها علي الزواج و قضايا النفقة و الطلاق التعسفي) وتضيف أن دور الوزارة يتمثل بالتوعية المستمرة وعقد ورش العمل التثقيفية و الندوات العامة الموجهة للأسرة والفتيات المقبلات على الزواج , إضافة إلى عقد ندوات في المدارس وفي مجالس الآباء والأمهات، والمساجد لتوعية الفتاة بكيفية المطالبة بحقها في نطاق الأدب وتعريفها على معيار اختيار الزوج ليكون رفضها مقبولا من الأهل.

 وبينت أن الوزارة أقامت هذا الشهر برنامج ائتلاف توعية المرأة واهتم جزء منه بأركان الزواج وكيفية ممارسة الفتاة لحقوقها باختيار الزوج و شمل كذلك ندوات موجهة لطلبات الثانوية استهدفت 44 مدرسة و ركزت على المعلمات والمرشدات التربويات ليساعدن في توعية الطالبات.

وأشارت هارون إلى عدم ورود أي شكوى للوزارة بما يختص زواج الإكراه لكنها أكدت على وجود مخططات وتنسيق كامل مع ديوان القضاء الشرعي بالتعاون مع الدكتور حسن الجوجو وجملة من القضاة يستقبلون أي قضية توجهها الوزارة لهم وكذلك مركز الإرشاد الأسري و قاضي القضاة الذي يقوم بدوره في حفظ حقوق الفتاة في القبول أو الرفض .

يجهلن حقوقهن

وأوضحت زينب الغنيمي مديرة مركز الأبحاث و الاستشارات القانونية أن الإكراه هو إجراء غير ظاهر للقانون لأن الفتاة إذا تعدت السن القانوني فإن لها الحق بالرفض و مقاومة الإكراه ,لكن بفعل التهديد الذي قد يقع عليها تضطر للتخلي عن هذا الحق .

و ذكرت أن معظم الفتيات مكرهات على الزواج إن لم يكن إكراههن من العائلة فهو إكراه مجتمعي فرضه المجتمع و الظروف المحيطة بالفتاة كالفقر والبطالة فيجعلها هذا تقبل بالأمر الواقع خوفا من أن يفوتها قطار الزواج، وبعض الأمثال السائدة في المجتمع مثل " ظل راجل ولا ظل حيط " حسب تعبيرها .

و أضافت أن القانون يقف بجوار الفتاة و ينصفها قبل العقد فقط بأن أعطاها الحق بالرفض أمام القاضي لكن بعد العقد يصبح موقفها ضعيف، إلا إذا كانت قاصرا.

يتذكر أن نسبة حالات الطلاق في عام 2009 هي 11% من نسبة حالات الزواج , و أن نسبة المطلقات قبل الدخول تشكل 42.5% من نسبة الطلاق و يشكل لإكراه جزءا من أسباب هذه الحالات.

و ذكر مختصون أن نسبة الفتيات المكرهات هو اكبر من أعداد الشباب و كذلك الضرر الواقع على الفتاة يعد الأكبر و ذلك لأن موقف الشاب إذا أكره على الزواج بمن لا يرغب يكون أقوى من موقف الفتاة إذا أكرهت و علل ذلك بأن الشاب لديه خيارات قد تخفف عنه مثل تعدد الزوجات و الطلاق الذي أحله له الشرع إن لم يوفق في زواجه الأول .

فيما اتفقت جميع الشخصيات على الدور السلبي لزواج الإكراه و ما ينتج عنه من تفكك للأسرة التي تعد اللبنة الأساسية في بناء المجتمع و كذلك عدم التوافق بين الزوجين الذي يؤدي لاستمرار الخلافات مما ينعكس سلبا على حياتهما وحياة الأطفال وخصيصا الفتيات منهم لأنهم الحلقة الأضعف و قد تؤدي أخيرا إلى الطلاق , و هذا بمجمله خلاف المقصد الرئيس من الزواج وهو السكينة وراحة النفس .

ما زالت مشكلة زواج الإكراه قائمة , لكن للفتاة الحق في اختيار زوجها المستقبلي منحها إياه الشرع و القانون , و لذلك على أولياء الأمور عدم استغلال ضعف الفتيات لإجبارهن على ما لا يرغبن والدخول في مشروع محكوم عليه بالفشل فما بني على باطل فهو باطل.

البث المباشر