الرسالة نت-كمال عليان
بين ثنايا غرفة مظلمة في إحدى زوايا قسم الحروق بمشفى دار الشفاء وسط مدينة غزة، كان مسجى فوق سريره، ظلام دامس، ريح قوي يبعث الرعب في النفوس، أصوات مخيفة تخرج من " صرير الباب" بعد فتحه، وأضواء قوية تنبعث من خلف الستائر المتطايرة في المكان الموحش والمظلم.. إنه مكان يخفي في جنباته لغز محيّر وسر مخيف.
دخولك إلى تلك الغرفة المظلمة حتى تصل إلى جثته النحيفة، وترفع عن وجهِهِ الملاءة، كفيل بأن يجعل صراخك مدوياً يهز ارجاء المكان.. فجمجمته تكاد تكون بارزة فوق الجلد المصهور أصلا جراء الحرق، وجههُ متفحم لا تعرف تفاصيله، عيناه بارزتان ومفقوءتان خارج مكانهما فضلا عن انبعاث رائحة اللحم البشري المشوي من الجثة.
لم يكن هذا المشهد مستوحى من سيناريوهات السينما الأمريكية المرعبة، إنما هو حال الطفل "محمد النجار" ابن الأربعة عشر ربيعا قبل مفارقته للحياة بساعة واحدة فقط.
وشهدت محافظة شمال غزة، قصة مشاهدها لا تقل بشاعة عن مشاهد افلام الرعب، فقد خلفت آثارا لا تمحى من مخيلة كل من تربطه بها صلة أو عايشها أو حتى سردت على مسامعه فصولها.
ولا يزال خبر حرق والد لابنه الصغير بالنزين، قبل أسبوع، آخذاً بالتفاعل على أكثر من صعيد، فقد هال سكّان معسكر جباليا وشمال غزة عموماً، خبر الجريمة المروّعة، التي أُزهقت فيها روح طفل صغير لم يتجاوز الرابعة عشر من عمره.
بكل سهولة، يمكن سماع الحديث عن الجريمة بين أي شخصين في شمال غزة، فألسنة الناس هناك لم تتوقف عن ذكر ما حصل.
ولا تعتبر جريمة مقتل "النجار" الأولى أو الأخيرة من نوعها، إذ وبعد ثلاثة أيام من مقتل محمد أقدم الوالد (م.النجار) على طعن ابنه الصغير بسيخ حديد في بطنه، قبل نقله إلى ذات المستشفى.
ويذكر أن جرائم قتل الآباء لأبنائهم قد تكررت أكثر من خمس مرّات خلال هذا العام في شمال غزة حسب مراكز الإحصاء الفلسطينية.
وفي تفاصيل جريمة الحرق، أكد مسؤول أمني في المباحث العامة لـ"الرسالة نت" أن الوالد "الجاني" طلب من ابنه الذهاب معهم لقطف الزيتون من أرض تابعة لعائلته، وبعدما رفض الذهاب معهم لأنه متعب، استشاط الوالد غضبا وسكب عليه غالونا من البنزين ثم ألقى عليه سيجارة لتلتهم النيران جسده.
وتأكيدا على ضرورة أن يأخذ القانون مجراه أوضح المسؤول الأمني أن عملية القتل حصلت مع "سبق الإصرار من غير الترصد" لأنه لم يكن مخطط لها من قبل، ولكن يجب أن تأخذ العدالة مجراها عندما يتعافى وضعه الصحي والنفسي.
أما فيما يختص بالدوافع، فإن التحليلات تطول، إذ يذكر أحد المقرّبين من الوالد "القاتل" أنه كان يتناول حبوباً مهدّئة حتى يتمكن من السيطرة على أعصابه.
ويوضح أحد المطّلعين على التحقيقات أن الإفادات التي أدلى بها مقرّبون من العائلة تشير إلى أن الوالد النجار كان يعاني ضائقة مادية، فضلاً عن أنه يعاني أمراض نفسية كانت تحدث عنده ردّات فعل بين فترة وأخرى.
بعض جيران الوالد يؤكدون أنه لم يكن يظهر عليه " الوالد" أي من مظاهر الجنون، بل كان شخصاً عادياً ومحب للحياة، يمازح أصدقاءه بلطف ومحبة ولم يكن يميل إلى الانعزال، لكن ربما بات ميالاً إلى الانفراد بنفسه في الفترة الأخيرة من عمره.
ويقول أحد جيرانه : كان شخصاً محباً لعائلته، فقد حرص على توفير أفضل وسائل الراحة لعائلته.. لكن "غريب أمر هذه الدنيا، كيف يمكنها أن تحوّل شخصاً، من والد نموذجي إلى قاتل".
وأما الطفل خالد محمد (14 عاما) فلم يستطع أن يقنع نفسه بما حدث لزميله في مقعد الدراسة محمد النجار، الأمر الذي جعله يغيب عن المدرسة لمدة أسبوع من الجريمة، حتى أنه عاد إلى المدرسة وعلامات التوتر بادية على وجهه من اليوم الأول.
ولم يكن المدّرس "رفض الكشف عن اسمه" يتوقع أن يحدث مثل هذا الحادث لأحد طلابه الهادئين كما وصفه، مبينا أنه حاول أن يهدئ من روع طلاب الفصل بعد فقدهم أحد أصدقائهم بحادثة صعبة للغاية، واصفاً ما حدث بـ" الفاجعة".
وتردد صدى الجريمة بتفاصيلها وأجوائها الخاصة بين طلاب مدرسة الإعدادية "ج" نظرا للطريقة التي أودت بحياة طفل بريء ذنبه أنه كان متعبا ولم يساعد والده بقطف الزيتون.