في الذكرى الــ15 للانسحاب الإسرائيلي من غزة

حبة تمر وكتاب.. ذكريات محاضر جامعي على حاجز أبو هولي!

د. طلعت عيسى
د. طلعت عيسى

الرسالة نت-أمل حبيب

توقف محرك السيارة، فالحاجز مغلق، أخرج طلعت من حقيبته كتابًا وزرع رأسه فيه، ابتلعته عيون الركاب، حتى قطع استغرابهم سؤال أحدهم: "يا برود أعصابك يا أخي، أبو هولي سكر علينا وإنت بتقرأ كتاب!"

أخفض طلعت عيسى الأستاذ الجامعي الكتاب عن وجهه حتى بانت عيناه للسائل، ابتسم له وقال: "أحاول الاستفادة من ساعات اغلاق الحاجز بالقراءة، لن يفتحه الجندي إن توترنا أو غضبنا، حاول أن تستغل هذا الوقت، ولا تتلف أعصابك".

حوار لم ينسه طلعت الأستاذ المشارك في قسم الصحافة والإعلام في الجامعة الإسلامية رغم مرور 15 عامًا قبل أن ينسحب المحتل الإسرائيلي من القطاع ويختفي حاجز أبو هولي وسط قطاع غزة!

ذاكرة وانتظار!

الانتظار لساعات، الجلوس على الرصيف، حديث السائقين، أعقاب السجائر في الأرض، بكاء الصغار، جميعها ذكريات علقت في ذاكرة طلعت كما علق الفلسطيني لسنوات على الحاجز!

ابن مدينة رفح الذي يعمل محاضرًا في الجامعة الإسلامية منذ عام 1997، يلزمه المرور بشكل يومي على حاجز "محفوظة- أبو هولي" الواقع على طول شارع صلاح الدين ما بين نهاية مدينتي دير البلح وخانيونس.

ويصف "للرسالة" شكل الحاجز: "عبارة عن حاجزين بينهما كيلومتر، الجنوبي كان يسمى محفوظة، والشمالي أبو هولي وبينهما مسافة كبيرة يتم اغلاقها على المحتجزين، وتفتيشهم الدقيق وصولًا لاعتقال البعض".

من بعد صلاة الفجر مباشرة كان يتوجه المحاضر الجامعي في طريقه إلى عمله، منذ عام 2000 وحتى 2005 كان لابد أن يجتاز "أبو هولي" حتى يتمكن من إكمال مسيرته العلمية وواجبه كأستاذ جامعي!

كيف تبدو هذه السنوات؟ ثم كيف يصل هذا المعلم بصفاء عقل وتركيز لإعطاء درس جديد؟ وهل بمجرد كوننا نتخطى هذا الحاجز في كل مرة فقد نجونا؟

تنهيدة وصلتنا عبر الهاتف، يجيب أستاذ الصحافة والإعلام على تلك التساؤلات: "الأمر كان مرهقًا، جهد نفسي وجسدي، المعاناة بشكل يومي، ما إن نجتاز أبو هولي ونصل إلى بيوتنا، يبدأ صباح جديد ورحلة جديدة وتفاصيل اذلال وموت بطيء هناك"!

مرات كثيرة كان يصل إلى الجامعة وقد فاتته المحاضرة، وغادر الطلبة القاعات، وأحيانا أخرى يحاول إكمال درسه للطلبة أو تأجيله، "الطلاب يقدرون الحالة التي نعيش، هم جزء من هذه المعاناة وهم أهل النضال" يعلق طلعت على هذه الجزئية.

كرم واتصالات!

في وطن محتل كبر الصغار هنا على مفردات معينة، اعتادوا السؤال عن حظر التجوال، الاجتياح، الاشتباك، وكذلك الحاجز!

عائليًا كان الأمر مزعجًا لاسيما لأطفال الأستاذ طلعت، الذين ما أن يحل المساء دون عودة والدهم يتواصلون معه هاتفيًا لسؤاله الذي يدركون اجابته مسبقًا "بابا الحاجز مسكر؟"

قدر المستطاع حاول طلعت تهيئة صغاره بأنه قد يحتاج للمبيت بعيدًا عنهم ليوم أو اثنين، ففي كثير من الأحيان كان يضطر لذلك مع زملاء له في مدينة غزة، بسبب إغلاق الحاجز طيلة المساء دون أن يتمكن من الوصول لمدينته رفح.

كان من الصعب على الفلسطيني أن يمحو من عقله مشهد جنود الاحتلال الذين أقاموا برجاً للمراقبة عند الحاجز، وبوابة تغلق في وجهه متى يحين لمزاج الجندي ذلك، تمامًا كحبة تمر صغيرة وضعت في يد طلعت من الصعب نسيانها كذلك!

حبة تمر وكأس ماء كانتا بلسمًا لقلب طلعت وللمحتجزين على الحاجز، يستذكر مع "الرسالة" كرم أهل المنطقة ونخوتهم مع العالقين على أبو هولي بقوله:" من المواقف الجميلة التي كانت تخفف عنا التعب والانتظار لساعات هو وقوف أهل المنطقة وسكان دير البلح معنا، إن كان بتوزيع التمر والماء على الركاب، أو بالسماح لنا بالاستظلال في بساتينهم تحت الشجر".

مرت هذه السنوات، والآن يمر طلعت من نفس الطريق وقد اختفى هذا الحاجز بانسحاب الاحتلال الإسرائيلي من القطاع، لا يجد وصفًا للمرة الأولى التي مرت خلالها السيارة من منطقة أبو هولي بعد الاندحار، "كان أشبه بحلم، خلال دقيقتين اجتزنا الطريق بدلًا من نهار كامل يضيع هناك".

رسالته الأخيرة كان جزء كبير منها هو امتنان لجهود المقاومة وثابتها التي كانت سببًا بالنسبة له ليصبح هذا الحلم واقعًا يعاش، قائلًا:" الشعب الفلسطيني اعتاد على الصمود والصبر، وانسحاب المحتل من غزة أكبر دليل بأنه ليس مطلوبًا منا سوى المزيد من الصمود والثبات".

 

 

 

                       

 

 

 

 

البث المباشر