تداولت الأوساط الفلسطينية بارتياح تطورات الحوار بين فتح وحماس في إسطنبول، التي يبدو أنها قطعت شوطاً لا بأس به، وجرى التوافق على إجراء انتخابات في الضفة الغربية وقطاع غزة خلال ستة أشهر، حيث سيصدر الرئيس عباس مرسوماً بذلك، وعلى قاعدة التمثيل النسبي الكامل.
ومن المتوقع أن تجري انتخابات المجلس التشريعي للسلطة أولاً ثم انتخاب رئيس السلطة ثم انتخاب المجلس الوطني الفلسطيني، وفق ما صرَّح جبريل الرجوب. كما أن هناك توافقاً على متابعة الحوار لتعزير الوحدة الوطنية الفلسطينية، وانضمام باقي الفصائل في ترتيب البيت الفلسطيني ومواجهة التحديات.
مظاهر إيجابية:
تبدو المظاهر الإيجابية لهذا التوافق في الدفع الإيجابي لتجاوز الانقسام الفلسطيني وما تسبّب به من خسائر كارثية، ومن وجود رغبة شعبية واسعة في تجاوز الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية.
وهو من ناحية ثانية، يسهم في توحيد جهود الشعب الفلسطيني في مواجهة الأخطار العظيمة التي تواجه قضيته ومستقبله، وخصوصاً صفقة ترامب ومشاريع الضم الإسرائيلي لأجزاء من الضفة الغربية.
كما أن تلك الحوارات والتوافقات تندرج، من ناحية ثالثة، في إطار برنامج البحث عن المشترك وبناء الثقة، باعتبارها منطلقاً أساسياً لإصلاح البيت الفلسطيني والتعايش تحت سقف مؤسسي رسمي واحد، ونزع عناصر الخوف والشك من الطرف الآخر، والاحتكام إلى آليات عادلة وشفافة في صناعة القرار الفلسطيني، وتحديد المصالح العليا للشعب الفلسطيني، والأولويات التي تحكم هذه المرحلة وبرنامجها السياسي.
وهي من ناحية رابعة، فرصة لاتخاذ مجموعة من الإجراءات على الأرض في الضفة الغربية وقطاع غزة من ناحية إطلاق الحريات السياسية والإعلامية، وتفعيل العمل النقابي الطلابي والمهني، والبلديات؛ وإيقاف الملاحقات الأمنية للاتجاهات المعارضة.
الانتخابات آلية مرغوبة و”ملغومة”:
في المقابل، فإن الطرفين قد اختارا الانتخابات كآلية للخروج من المأزق وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني. هذه الآلية التي تبدو للوهلة الأولى أفضل آلية ممكنة لمعرفة الأوزان الشعبية للقوى الفلسطينية، غير أنها في الوقت نفسه آلية “ملغومة” تحمل في طياتها مخاطر الفشل، إن لم يَجْرِ ضبطها وحمايتها بعدد من الضمانات والمحددات.
أبرز هذه المخاطر سهولةُ تعطيل الجانب الإسرائيلي للانتخابات التشريعية والرئاسية للسلطة الفلسطينية، وعدم وجود أي ضمانات لمنع تدخله فيها وإفشالها. فهل سيسمح لـ”عرس ديموقراطي” فلسطيني أن يمر؟! وهل سيمرر بسهولة استعادة الفلسطينيين لوحدتهم الوطنية والتعبير عن أوزانهم الشعبية الحقيقية؟! وهل سيمرر مشاركة المقدسيين في الانتخابات؟ وهل سيسمح لحماس وقوى المقاومة أن تعيد ترتيب صفوفها في الضفة الغربية، ويسمح لمرشحيها بالدعاية الانتخابية والتعبئة الجماهيرية؟ إن الظروف الآن هي غير ظروف 2006، وعندما فازت حماس (وهو ما لم يكن يتوقعه) قام بإجراءات محاصرة وتعطيل وإفشال سريعة… وخلال أشهر اعتقل العشرات من نوابها ورموزها في الضفة الغربية بعد تصعيد عسكري كبير… وشُلَّت قدرتها الفعلية على العمل. وفي نهاية المطاف، يبقى الطرف الإسرائيلي “الحاضر الغائب” على طاولة الترتيبات الفلسطينية لانتخابات الداخل. فهل يجوز أن يكون مدخل إصلاح البيت الفلسطيني في إطار مواجهة الاحتلال هو انتخابات تحت الاحتلال نفسه؟! أليس في ذلك مغامرة كبيرة، ورهنٌ لانطلاقة الإصلاح بمزاج العدو؟!
ربما يجيب البعض أن السلطة قد تلجأ للتصويت الإليكتروني لإنجاز العملية الانتخابية. وهو إجراء يجب دراسته وتوفير ضمانات نجاحه ونزاهته. غير أن الخطوات التالية لنتائج الانتخابات تبقى عرضة للتدخلات الصهيونية، حيث يجب إيجاد الاستجابات المناسبة في مواجهتها.
من ناحية ثانية، فإن السلطة الفلسطينية نفسها لم تعد تلك السلطة التي نشأت في 1994، ولا تلك التي تريد استيعاب المقاومة وتمرير “خريطة الطريق” بعد توقُّف انتفاضة الأقصى 2005؛ بل هي في حالة متهاوية سياسياً واقتصادياً بعد أن تحولت إلى أداة في خدمة الاحتلال، وأدار لها الاحتلال ظهره بعد أن استهلكها و”قضى وطره” منها. ولم يعد ثمة مشروع دولة، ولا حل دولتين، ولا أفق سياسي للسلطة. ولذلك فإذا كان الحديث عن الانتخابات لتشكيل حكومة بحسب المعايير والرؤى التي تعكس الإرادة الفلسطينية، فسيكون هناك بُعدٌ كبير عن الواقع. والأَولى في مثل هذه الحالة تحديد “الوظيفة الجديدة” للسلطة في ضوء برنامج الإصلاح الوطني وترتيب البيت الفلسطيني، فتركز على الجانب الخدماتي للفلسطينيين، وتترك الجانب السياسي للمنظمة، وتنأى بنفسها عن التعاون الأمني مع الاحتلال؛ وتوفر الغطاء الملائم للحالة المقاومة لقطاع غزة، وترفض تطويع القطاع لأدوات الاحتلال ومعاييره التي فرضها في الضفة الغربية.
من ناحية ثالثة، فإن الانتخابات يجب أن تكون مدخلاً لإصلاح البيت الفلسطيني وليس فقط لترتيب أوراق السلطة الفلسطينية المرتهنة بالاحتلال. ولذلك كان التوافق السابق وفق اتفاق المصالحة في أيار/ مايو 2011 ينص على التزامن في الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمجلس الوطني؛ لضمان نجاح وجدية العملية الانتخابية، والتحرك بخطوة جادة نحو إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية. غير أن الحديث هذه الأيام عن الاكتفاء أولاً بانتخابات التشريعي سيحمل مخاطر تعطيل باقي العملية الانتخابية كما حدث في سنة 2006، عندما عطلت قيادة المنظمة وفتح استكمال الإجراءات المتفق عليها في صيف 2005 والمتعلقة بتشكيل المجلس الوطني، بعدما فوجئت بفوز حماس في الانتخابات.
ولذلك فإن عدم التزامن قد يعطي “شبكة أمان” لفتح إن خسرت مرة ثانية لأن تُعطِّل انتخابات الرئاسة والمجلس الوطني، سواء برغبتها أم تحت ضغوط عربية ودولية مختلفة. كما أن فوز فتح قد يشجُّعها على الاكتفاء بـ”نزع شرعية” حماس في تمثيل الأغلبية الفلسطينية في المجلس التشريعي، استكمالاً للشوط الذي بدأته منذ سنوات، ثم مطالبة حماس باحترام مسار التسوية، الذي تتبناه فتح والتي ستكون أكثر جرأة في التحدث باسم الفلسطينيين في أي مفاوضات أو صفقات تسوية محتملة؛ كما ستطالب حماس بتسليم قطاع غزة لسلطة رام الله وإخضاعه لمعاييرها، كنتاج طبيعي لاحترام العملية الديموقراطية. وفي الوقت نفسه، تستطيع قيادة المنظمة والسلطة (كما في التجارب السابقة) إيجاد ألف عذر وعذر للتنصل من استكمال انتخابات الرئاسة أو المجلس الوطني أو إصلاح البيت الفلسطيني؛ مما يعني أن هذه الانتخابات كانت مجرد “فخ” لحماس وقوى المقاومة. هذا، دون أن نناقش أنه من شبه المؤكد أن الانتخابات النسبية بطبيعتها ستفقد حماس أغلبيتها السابقة في المجلس التشريعي إلى ما دون النصف، سواء فازت أم خسرت.
ولذلك، فإن التوافق الجديد يحتاج إلى “شبكة أمان” تضمن مُضي العملية الانتخابية الشفافة وإصلاح البيت الفلسطيني إلى نهايتها.
من ناحية رابعة، فإن المضي نحو الانتخابات دون توافق على برنامج وطني أمر محفوفٌ بالمخاطر، إذ إننا أمام مسارين مختلفين (التسوية والمقاومة) لهما رؤيتهما وأولوياتهما وبرامجهما المختلفة. وليس من المتوقع أن ترضخ حماس وقوى المقاومة لبرنامج التسوية إذا ما خسرت الانتخابات، ومن المستبعد جداً أن تتحول فتح إلى مسار المقاومة وتخرج من مربع التسوية، الذي كررت وما زالت تكرر التزامها به حتى هذه اللحظة. ولذلك فإن إصلاح البيت الفلسطيني مرهون أساساً ببرنامج وطني يحمي الثوابت ويواجه الاحتلال أكثر مما هو مَعْنٍ بمجرد الانتخابات. وإن الخطوط العامة لهذا البرنامج والمتوافق عليها بين الفصائل، يجب أن تكون سابقة للانتخابات، لئلّا ينفجر صراع الاتجاهات بأقوى مما كان.
من ناحية خامسة، إن ثمة تجربة تاريخية في السنوات الأربعة عشر الماضية تبعث على القلق تجاه عملية المصالحة؛ فقد تكرر الحديث عن الانتخابات كثيراً، وتم التوافق على عدد من الاتفاقات والتفاهمات (وثيقة الوفاق الوطني 2006، إعلان مكة 2007، اتفاق المصالحة 2011، تفاهمات الدوحة 2012، تفاهمات الشاطئ 2014، اتفاق القاهرة 2017… وغيرها) كان يبرز فيها العامل التكتيكي في إدارة العلاقة، والاختيار الانتقائي والتفسير المصلحي، وسهولة العودة لمربع الاتهامات، ومحاولات فرض الأمر الواقع، وتحقيق المكاسب التدريجية؛ بحيث أصبحت الاتفاقات جزءاً من إدارة الصراع وليس إدارة الحل. ولذلك، فإن الطرفان مطالبان الآن بالعمل الجاد على ترسيخ منظومة “بناء ثقة” حقيقية وفعالة ولا بأس أن تكون متدرجة، لتؤسس لقصة نجاح… وليس لقصة فشل جديدة تضيف إحباطاً إلى الإحباطات المتراكمة في الساحة الفلسطينية.
من ناحية سادسة، فإن بيئة الانتخابات وما قد يُصاحبها من تنافس واحتكاك و”كشف عورات” متبادل، قد تسهم في تأجيج الأوضاع والمشاعر بدلاً من تضميد الجراح ولملمة الصف، وهنا تبرز أهمية التوافق ليس فقط على أخلاقيات وأدبيات العملية الانتخابية، وإنما على الخطوط العامة للبرنامج الوطني، ليكون التنافس في التفصيلات في إطار المصالح العليا للشعب الفلسطيني؛ وبحيث لا يشعر أن الطرف الآخر سيقود الشعب الفلسطيني إلى كارثة… بما يبرر له الانسلاخ عن الاتفاقات.
من ناحية سابعة، فثمة مخاوف لدى الأطراف الداعمة للمقاومة من أن سلوك السلطة هو سلوك تكتيكي يهدف إلى تقوية وضعها في مواجهة الضغوط الإسرائيلية والأمريكية، ومواجهة الاختراق التطبيعي الإسرائيلي في العالم العربي الذي تسبّب في تضعضع الوضع السياسي للسلطة الفلسطينية وللمنظمة، وبالتالي إظهارها قائدة لكافة القوى الفلسطينية وأنها كلّها تحت جناحها. كما أن ثمة مخاوف من أن تربط قيادة السلطة والمنظمة سقف المقاومة الفلسطينية بسقفها “السلمي” المنخفض وبحركتها البطيئة الحذرة، مما قد يوفر فرصة للاحتلال لفرض الأمر الواقع والمضي بمخططاته دون عناء، ولتجاوز أي مقاومة حقيقية على الأرض. وتزداد المخاوف مع الشعور بسعي قيادة السلطة لتقطيع المرحلة إلى ما بعد الانتخابات الأمريكية، على أمل فوز بايدن، وتعثر صفقة القرن ومشاريع الضم الإسرائيلي، واستعادة مسار التسوية لبعض حيويته؛ وعند ذلك قد تعود حليمة (السلطة) إلى عادتها القديمة!!
هذه المخاوف مخاوف مشروعة، لا يهدف من يتحدث عنها لتعطيل المصالحة، ولكنه يسعى لإيجاد ضمانات كافية لنجاحها.
عناصر إنجاح المصالحة:
ثمة مجموعة من العناصر التي نحتاجها للدفع إيجاباً باتجاه مصالحة حقيقية، وإعادة ترتيب جاد للبيت الفلسطيني، أبرزها:
– المبادرة إلى إطلاق الحريات في الضفة والقطاع، للعمل السياسي والإعلامي، وتفعيل الاتحادات والنقابات الطلابية والمهنية وإطلاق سجناء الرأي، ووقف التنسيق الأمني مع العدو.
– وكبادرة حسن نية فمن المفترض أن تقوم قيادة السلطة بدعوة المجلس التشريعي الحالي لممارسة عمله بانتظار الانتخابات الجديدة، وبرفع العقوبات عن قطاع غزة.
– السعي لإنجاز برنامج وطني سابق للانتخابات، يمثل قاعدة عمل مقبولة للقوى الفلسطينية في هذه المرحلة.
– تنفيذ برنامج بناء ثقة متبادل ومتدرج بين فتح وحماس وكافة الفصائل.
– تفعيل منظمة التحرير وأطرها في الخارج، وفتح مؤسساتها لكافة أبناء الشعب الفلسطيني؛ وبدء “ورشات عمل” إصلاحها، وتفعيل دور الجاليات الفلسطينية.
– الالتزام بالتزامن في الانتخابات، والتعهد باحترام نتائج الانتخابات والمضي بها إلى نهايتها.
– التوافق على آليات انتخابية شفافة صارمة، بكافة مستوياتها ومراحلها.
وأخيرا، فإن قضية فلسطين أمام استحقاقات تاريخية لا تحتمل المناورات السياسية وتضييع الأوقات، وإنما هي بحاجة إلى جهد جاد وبناء ولكل ثانية لإعادة بناء البيت الفلسطيني واسترجاع زخمه وعناصر قوته.