قائد الطوفان قائد الطوفان

صلب الصليب.. والزيات ببين على ثيابه

الرسالة نت - رشا فرحات

"إذا صلب الصليب ما تشيل عن زيتونك القضيب"، مثل فلسطيني ارتبط بآخر أيلول حيث ينتظر الفلاحون زخات المطر القليلة المرافقة لعيد الصليب عند المسيحيين الشرقيين لجني الزيتون.

هذا العيد الذي تحتفل به الطائفة الشرقية في منتصف أيلول، تتبعه زخات من المطر، حيث لا يقطف الزيتون إلا بعد أن ترش الطبيعة أوراقه، فيأتي موسم الحصاد الذي يعد عرسا فلسطينيا بامتياز، له طقوسه، ولغته، ومصطلحاته. احتفال وطني يتحدث فيه الزيتون بلغته الفلسطينية، وفق المختص في قضايا التراث، حمزة العقرباوي.

ثم ينتصف تشرين الأول بعد أن "يصلب الصليب"، فيبدأ الفلاحون مع عائلاتهم بالتوافد إلى أراضيهم وبياراتهم للبدء بالقطاف، حتى أن الكثير من العائلات التي تسكن بيتا عاديا تزرع في حديقتها زيتونة "لتجدّها" في موسم الحصاد، حيث يحب الجميع أن يعيش طقوسه لرمزية الزيتونة لدى الفلسطيني وأهمية ما تحمله من معانٍ.

ولطالما كانت لحبة الزيتون مكانتها في الأهازيج والأمثال الفلسطينية والتي تربط الخير بوجود الزيتون وزيته في البيت، فالبيت الذي لا يخلو من الزيتون، لا يجوع ولا يمسه العوَز، لما لهذه الشجرة من بركة وسخاء على أصحابها، فجاء في المثل الفلسطيني "كل زيت وانطح الحيط"، وقيل أيضا "قمحي وزيتي عمارة بيتي".

ولطالما توارثت الجدات فكرة التدليك بزيت الزيتون لأي وجع كان، يقينا وليس تخمينا بأن في زيت الزيتون شفاء من كل مرض، وكان هذا أيضا ظاهرا في الأمثال الشعبية الفلسطينية فقالت فيما قالت: "دهنه بالزيت وارميه بالمبيت" و"الزيت مسامير العصب والركب".

وبالعودة للعقرباوي الذي تواصلت معه "الرسالة" هاتفيا، قال: الموسم مُرتبط بالمواقيت لدى الفلاحين، فقيل "أيام الزيت أصبحت أمسيت"، وأيضًا: "أيام الزيت طوّل الخيط"، وذلك كناية عن بدء قصر النهار وطول الليل مع دخول الخريف.

وعن السنة التي يكون فيها الجوّ حارًا أثناء موسم القطاف، قال الفلاحون: "سنة الشّوب بتلبس الثوب"، أيّ أنّ السنة التي يكون فيها الجو حارًّا أثناء القطاف فإن ذلك يعني أنّ السنة المقبلة كثيرة البرودة.

ويضيف عقرباوي: وبالطبع لموسم الزيتون صلة بأسماء الأغنام لدى الفلاحين، فتراهم يُسمّون أغنامهم التي تلد في الخريف (أيلول وتشرين أول وتشرين ثاني) بـ"الغنم الزيتوني".

وحينما يأتي موسم شراء الزيت والزيتون ينتقي الفلسطيني " تنكة" زيته بعناية فائقة، ويبحث ويتقصى أفضل الزيتون وأجوده ليضمن زيتا بكرا على مدار العام الكامل، متفقدا طريقة قطافه وعصره ونقله وتخزينه، وحتى طريقة حفظه.

ويعد موسم قطاف الزيتون طقسا كنعانيا قديما توارثته الأرض الفلسطينية ومارسته عاما بعد عام، فالرجال يعتلون الأشجار، والنساء يربطن أذيال أثوابهن حول خصورهن ليجمعن الحبات، ويفرشن الأرض بأغطية تحت الشجر لتحتضن كل حبة سقطت من يد الفلاح الذي "يلقّطها" حبة تلو الأخرى بيديه دون استخدام أي أدوات حديثة.

الزيتون ليس طعاما، ولا علاجا فحسب، فهو يدخل في صناعات فلسطينية حيث يستخدم هناك ما يسمى العكر أو الزيبار وهي مادة سائلة ثقيلة القوام يميل لونها إلى السمرة تستخدم في صناعة الصابون النابلسي الذي كلما زادت نسبة زيت الزيتون في مكوناته، كانت مصنعيته أفضل وفوائده أكثر.

وقد استخدم الفلسطينيون على مر العصور "الجفت"، وهو ما تبقى من ثمار الزيتون بعد ضغطها واعتصار الزيت منها، فتحولت الى نواة قاسية وخشبية تستخدم في الوقود كالفحم، استخدمها الفلسطيني في التدفئة وإشعال أفران الطابون.

ويوضح العقرباوي مصنفا أنواع الزيتون الفلسطيني أن هناك زيتونا متنوعا من حيث العُمر أو الجودة، كالزيتون العُتقي، وهو الأقدم في فلسطين، ويمتاز بسمك كبير جدًا، وقريبٌ منه الزيتون الرومي الذي يعد الأكثر انتشاراً، وأخيرًا الزيتون الحكومي الذي زُرع في سبعينيات القرن الماضي".

ولعل أجمل ما في موسم الزيتون هو أنه أكثر المواسم التي تبرز فيها فكرة "العونة" وهي وصف للتطوع الشبابي من أجل قطف الزيتون في الضفة الغربية، فكل مزارع يعين أخاه المزارع في موعد قطافه.

وازدادت هذه الفكرة قوة وتلاحما بعدما بني الجدار الفاصل الذي ابتلع الكثير من الأراضي الزراعية، كما ابتلع أكبر شجرات الزيتون عمرا، فوقف الفلاح إلى جانب أخيه يؤازره فيما تبقى من شجيرات لم تقتلعها الجرافات الإسرائيلية.

ومع كل بداية موسم، لا تبقى شجرة إلا وطافت عبر حباتها عشرات الأيدي الفلسطينية في حفل ينتهي بلقمة زيتون تحت الشجرة أو بمنقوشة زعتر صنعت بزيت بكر بسواعد أهله الصامدين، فتتلون الأوجه بلون الشقاء، وتتعطر الأيدي برائحة الزيت والزيتون، وكما قالت الجدات "الزيات ببين على تيابه".

البث المباشر