"إِنَّمَا الصَّبرُ عند الصَّدمة الأُولَى"، هذا غالبًا حالنا نحن الفلسطينيين مشدوهين أمام مسلسل التخلّي والانزلاقات الخطير في المواقف العربية من قضيتنا، لذلك لم نتفاجأ من إعلان تطبيع السودان، لكن كان صعبًا علينا استيعاب الظروف التي أحاطت به.
الإعلان عن هذا التطبيع جاء من الزاوية التي نظرت إليه، بطريقة شبه خجولة أو تخلو من التأييد الكامل، وجاء بشكل متسارع في وقت مدروس لمصالح انتخابية قبل حلول الثالث من نوفمبر. وإن كان الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان يمضى فيه حازمًا لدواعي "السودان ومصلحته" فإن المشهد السياسي السوداني يبدو بتقديري متحفظًا ويُعدد محاذير لذلك.
لا توجد عين يمكن أن تخطئ حجم المعاناة التي يعيشها الشعب السوداني، ولا يختلف اثنان على أن الدولة تحت ضغط لقمة العيش، إلا أنه يجب ألا نختلف أيضًا على أن ذلك "فقر مفتعل" وصناعة مقصودة للتحكم في الدولة التي تمتلك مقومات زراعية هي الأكبر في المنطقة العربية، بواقع 175 مليون فدان صالحة للزراعة، ومساحة غابية تقدر بحوالي 52 مليون فدان.
وفي الشق الحيواني، يتمتع السودان بـ 102 مليون رأس من الماشية متحركة في مراع طبيعية، تُقدر مساحتها بـ 118 مليون فدان، فضلا عن معدل أمطار سنوي يزيد على 400 مليار متر مكعب، بيد أن هذه الثروات لم تستغل على مدى 64 عامًا، عقب نيل السودان استقلاله من الاحتلال الإنجليزي عام 1956، ليخرج رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو بتباهٍ وغطرسة ليعلن عن إرسال شحنة طحين قمح إلى السودان بقيمة 5 ملايين دولار، في امتثال شاهدناه حقيقة لمقولة غسان كنفاني "يسرقون رغيفك ثم يعطونك منه كِسرة.. يا لوقاحتهم".
تطبيع السودان مختلف تمامًا، ولم يكن بالسيولة التي تم بها الاتفاق مع العواصم الأربعة قبله، قادت فيه (إسرائيل) والولايات المتحدة لعبة مدروسة بعناية شدّتا فيها طرفي الحبل على بطن الخرطوم حتى احتك بالعظم، فأصبحت سلة غذاء الوطن العربي دولة مديونة لهما بـ 56 مليار دولار بحلول نهاية العام الجاري، فمنحوا بذلك عبد الفتاح البرهان الذريعة الكافية للتطبيع من وجهة نظره، وهو الذي خرج للشعب السوداني قبل أيام معلنا اعتذاره له عن معاناته وأنه "لا يملك عصا موسى لتجاوز الضائقة الاقتصادية".
كان برهان يضع المقدمات لهذا اليوم، ضمن مهامه الوظيفية المكمّلة لمخطط الإطاحة بالنظام السابق. ما مرّ به السودان هو تطبيق لفلسفة التطويع والإخضاع التي أوصلت بلد "اللاءات الثلاث" إلى مرحلة ربط تقديم الطعام بقرع الجرس، فكانت محصلة ذلك أن الجوع خائن.
في اليوم التالي لإعلان التطبيع مع السودان، تخرج الاستخبارات الإسرائيلية لتعدد، ضمن تقرير منشور، المصالح الاستراتيجية لهذا الاتفاق، وتحديدا الأمنية والعسكرية. وهذا يدعونا لإدراك الخطورة الحقيقية للتطبيع مع الدولة التي تعتبر ممرًا بريًا لإمدادات السلاح إلى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وقد يبدو ذلك كافيًا لفهم أن ما جرى هو فرض حلقة إقليمية جديدة من حلقات الحصار المشدد على قطاع غزة، وهذا ما تعدّه (إسرائيل) نجاحًا استخباراتيًا كبيرًا عملت عليه بصبر، وكان محط اعتزاز لأن يصرح وزير الاستخبارات "إيلي كوهين" بأنه "سيترأس شخصياً الوفد الإسرائيلي بعد التوقيع الرسمي على اتفاق السلام مع السودان".
الخطورة والكارثة وما لا يمكن استيعابه ليست في أنه أصبح بإمكان (إسرائيل) العمل بحرية وجرأة أكبر في السودان ومياهه الإقليمية وعلى طول نهر النيل، بل تعدى ذلك إلى أن الجيش السوداني الذي شارك في حرب فلسطين 1948 وحرب أكتوبر 1973 ضد (إسرائيل)، سيشاركها اليوم في الحرب ضدنا !