نور السوسي
ها أنا عالقٌ هاهنا الآن, مؤشر بطارية هاتفي النقال تشير إلى المنتصف, ولا أمل في أن تستجيب الشبكة لمحاولاتي المتكررة للاتصال بأحدهم..
لقد كان هاتفي هذا هدية تفوقي في الثانوية العامة, كانت تلك طريقة والدي في التعبير عن سعادته العارمة يومها. وأذكر كيف ذكرني بحلم مستقبلي قائلاً: "وأخيراً سأراكَ طبيباً يا سعيد".
كان من المقرر حينها أن أكمل دراستي الجامعية في الخارج, ولكن يبدو أنه من لم يُقدر لي هذا. وفكرة أن أرحل بلا عودة كانت مرفوضة تماماً لدى والدي, فلم أجد مفراً سوى الالتحاق بكلية الطب هنا. في الواقع لم يكن الأمر مخيباً للآمال كما ظننت, فكل ما نغص حياتنا وقتها هو انقطاع التيار الكهربائي المستمر, وأزمة غلاء الأسعار, ومنع عمي من العلاج خارجاً, وأزمة المواصلات فقط!
كم تبدو تلك الأيام سعيدةً مقارنةً بالآن.. حسناً.. لن يطول الأمر لأكثر من ساعة...
مرَّ عامٌ. قُصف بيتنا. لم يتضرر معظم البيت إلا غرفةٌ واحدة, كان والدي بداخلها.
مرَّ عامٌ وأنا أتجنب تلك الغرفة, منذ ذاك الوقت وأحسني لازلت أشمها..
حتى هنا في حفرتي الضيقة.. أشمُّ رائحة لحمٍ محروق!
وكان ألمي أكبر من البكاء, فلم أبكِ وفاة والدي!
فجأةً أصبحتُ معيل الأسرة الوحيد, لم يكن هناك بدٌ من أن أبحثَ عن عمل, بحثت مطولاً
إلى أن همس في أذني أحدهم: "أعمل معي بحفر الأنفاق يا سعيد, لن تجد فرصةً أفضل."
.. لا ينفك هاتفي يشيرُ إلى ضعف بطاريته..
ودعتني أمي بكفٍ من دعاء. ودعتني دون أن تعلم بطبيعة العمل؛ فهي لم تعد تطيق أن ينام أخوتي بمعدات خاوية لليلة أخرى.
بدأنا بالحفر, وبدء الرمل بالتساقط من سماء النفق المعتمة, ورغم أنني كنت ملثماً إلا أن الرمل وجد طريقه إلى فمي, وشرب الماء زاد الأمر سوءاً. ضحك رفاقي_دون التلثيم_: "غداً ستعتاد الأمر".
أشحت بتفكيري عنهم, وأمعنت بتذكر البحر حيث كنت أقضي معظم أوقاتي في ممارسة هواية الغطس! أيقظتني نقطة عرقٍ انحدرت باردة على ظهري. حتى تلك تشوبها الرمال!
يئن هاتفي الآن, وأعلن عصيانه وانطفأ.
تُرى كم من وقتٍ وأنا عالقٌ في منتصف هذه النفق؟ سبقني رفاقي بالخروج, ولم تنفعني دعوات أمي؛ فانهار المدخل قبل أن أخرج. حتماً سيأتون لإنقاذي الآن.
أحسُّ البرد بأوصالي, وأحسُّ بدفء الأرض تحتي وكأنها تهدهدني لأنام. في الأفق يبدو نور قادم من البعيد, أُحسُّني سألمسه!
ترنيمة أسمعها الآن. دعوة أمي, جوع أخوتي, رائحة لحم محروق, وطعم البحر المالح!