نسمع كثيرا عن أحلام الأسرى البسيطة، فأحدهم قال ذات مرة: "حينما خرجت من المعتقل شعرت أنني أحقق حلما عظيما، فأنا رأيت السماء أخيرا بدون شِباك، حيث كنت في ساحة الفورة أنظر إليها فأشعر بانفصالي عنها بسبب الشِباك، وحينما خرجت ركضت فرحا كطفل صغير وأنا أنظر إليها دون أي حواجز".
بالأمس أكل الأسير مجد البرير الكنافة لأول مرة، وكان مبتهجا فرحا بتحقيق حلم رأيناه صغيرا، وربما رآه كبيرا جدا، فقد كان الأسرى يصنعون الكنافة النابلسية من بقايا الخبز، ليظل الحنين إلى طعم الوطن حاضرا في المعتقل حتى لو كانت الكنافة " كذابة" ولا تشبه الكنافة النابلسية الحقيقية التي تباع في القدس ونابلس.
وللأسرى أحلام بسيطة، لا تشبه أحلامنا، أو أننا لفرط الحرية التي نحياها لا نعتقد أن تلك يمكن أن تكون أقصى ما يتمناه المرء فينا، "الرسالة" هاتفت بعض الأسرى المحررين وسألتهم عن أحلامهم وخواطرهم في غرف السجن.
حلم أمي
في حديثنا مع الأسير المحرر جمال فروانة قال: "من أول يوم دخلت فيه المعتقل كنت أريد أن أحقق حلم أمي، وأن أحصل على الثانوية العامة رغم الاعتقال، وكانت الثانوية ليست بالهينة خاصة لأسير خلف القضبان".
يحكي فروانة: "اعتقلت وأنا في الصف الحادي عشر وفي بداية العام الدراسي، اعتقلت من منزلي وحكمت بخمس سنوات، كان ذلك عام 1986، وكنت أحلم كما كانت أمي تحلم أن ترى أحد ابنائها يأتي اليها بشهادة نجاح توجيهي".
واعتقد فروانة أن حلمه سوف يتحقق، ففي عام 1987 طلبت إدارة السجون من ممثلي السجن تسجيل من يرغب في التقديم للثانوية العامة وتقدم فروانة وعبأ الاستمارة ولكن الحلم لم يتحقق بهذه السهولة، فالتحايل (الإسرائيلي) طال أحلام الأسرى البسيطة أيضا.
يكمل فروانة "قبل الامتحانات بفترة بسيطة رُحلت أنا ومجموعة من الاسرى من سجن السرايا غزة الي سجن عسقلان، وهناك رفضوا ان نقدم للدراسة وقالوا يؤجل للعام القادم، ولكن قبل أن تأتي تجهيزات العام القادم رحلنا أيضا لمعتقل النقب "كتسيعوت" الذي كانت ادارته ترفض أن يقدم المعتقلون الامتحانات، وأمضيت السنوات القليلة المتبقية بين ترحيل وتأجيل، ولم يتحقق حلمي"
ولكن فروانة تحرر بعدها وقرر أن يقدم التوجيهي وهو حر، ولكن بعد شهرين أعيد اعتقاله مرة أخرى، ومع ازدياد الاعتقال يزداد العناد، ويكبر الحلم الصغير.
يضيف: "رفضت أيضا إدارة سجن كتيسوت أن أتقدم لامتحان الثانوية ولم أحصل عليها إلا بعد حريتي مع قدوم السلطة".
نجح فروانة في الثانوية العامة، وانهى دراسته الجامعية وأكمل الماجستير، وقبل كل شيء حقق حلم أمه.
الجلوس وحدي
الأسير المحرر ياسر صلاح يقول إن الأسرى وقبل العام 94 كانت لديهم أحلام بسيطة لما يكابده الأسرى من تضييق في الزنازين: "كنا نحلم بأن نرى حبة مانجا، أو أن نرى دجاجة مشوية".
وبعد إضرابات عديدة وحتى عام 94 تغير حال الأسرى وأذعنت إدارة السجون لمطالبهم، فأدخلت إليهم الكنتينة، وبعضا مما يشتهون من الطعام، ولكن ظلت الحرية هي حلمهم الأول والأخير.
وعن أكثر ما يتذكره صلاح من أحلام أثرت في نفسه يتابع: "كان الاحتلال يتفنن في منع زوجتي وأطفالي من الدخول للزيارة بشكل انتقائي، وفي إحدى المرات سمح فقط لابنتي ذات الثلاث سنوات فأتت للزيارة مع إحدى الجارات، ورأيتها من وراء الزجاج وهي تبكي لأنها خائفة، فهي من جهة لا تعرفني، ومن جهة أخرى كنت أتمنى أن احتضنها واهديها قطعة حلوى لأشعرها بالأمان".
في غرفة تضم من 8 إلى 14 شخصا كانت الخصوصية مفقودة لأسير يريد أن يختلي بنفسه ليناجيها أو حتى ليبكي.
يقول صلاح: بعد الزيارة كنت أحب أن أخلو بنفسي فأصعد إلى السرير واغلق على نفسي بمنشفة معلقة على حبل واتأمل الصور والرسائل التي أتت من أبنائي، كنت أرغب في البكاء عند الحديث معهم وكنت أرى ذلك حلما في بعض الأحيان.
أما رؤية الشمس فذلك حلم آخر، فشباك الغرفة مبطن بثلاث طبقات وهذا يعني أن الأسرى لا يرون ضوء النهار، وأن تلك الفتحة في الزنزانة لا يمكن اعتبارها نافذة.
حمام لكل عشرة
ولك أن تتخيل عشرة أسرى في غرفة ضيقة بحمام واحد، كيف بمكنهم أن يأخذوا حقهم باستخدامه، فكان هذا حلما آخر من وجهة نظر الأسير صلاح "عشره يشتركون في حمام واحد، عشرة يشاهدون تلفزيونا واحدا، عشرة مطلوب منهم أن يحتفظوا بخصوصيتهم في زحمة الغرفة، عشرة منهم من يحلم بالزواج، أو الدراسة ومنهم من يحلم بدجاجة أو باحتضان زوجته وأطفاله لمرة واحدة، كانت أحلامنا كثيرة، لكن الحرية ظلت على رأسها، وهل الحرية حلم كبير، انه أيضا حلم صغير، إنه حق حولته (إسرائيل) إلى حلم".
ورغم كل ذلك، تحققت بعض أحلام الأسرى، بالسرير والغطاء الدافئ، والغرفة الأوسع، والتعليم ولكن ذلك كان ثمنه أياما طويلة من الاضراب والحرب داخل الزنزانة.
أحلامهم تحققت
زهير الشنينة الأسير المحرر الذي قضى حكما مؤبدا واعتقل منذ عام 90، حكى عن ذكريات كثيرة منها المضحك والمبكي، فقد حكى لنا ضاحكا بأنه لم يأكل التين والصبر على مدار عشرين عاما، وحينما خرج وقدموا له التين والصبر، شعر أنه يريد أن يبدأ بالتعود على تناول شيء نسي طعمه، كطفل صغير يتعرف على وجبة قدمت له للمرة الأولى.
ولكن في حياة شنينة أكثر من التين والصبر فهو يرى أن أحلامه التي كانت حقوقا كتعليم أطفاله الثلاثة حيث تركهم صغار أكبرهم لا يتجاوز الخمسة أعوام، كان ذلك كل ما يفكر به حيث يقول: "في التسعين لم تكن هناك رواتب للأسرى، وهدم الاحتلال بيتنا في مخيم البريج، وزوجتي عانت وهي تعمل في الخياطة حتى استطاعت اكمال تعليمها وتوظفت".
يرى شنينة أن زوجته انتصرت معه في المعركة وقاومت حتى تعلم أبناءه الثلاثة وأنهوا دراستهم لكن الغصة في القلب بقيت خلال سنوات الاعتقال:" كنت كلما سمعت عن زواج إحدى بناتي أتألم، حلمي الصغير أن أمسك يدها وأسلمها لزوجها كأي أب، كحق عادي مسلوب".
وحينما جاءت الأحلام بالإفراج لم تتحقق بسهولة، فقد أخذ شنينة من الوقت ما أخذ ليتأقلم مع ابنائه الذين لا يعرفونه: "لقد تركت ابني في بطن أمه، وخرجت وحفيدي في بطن زوجة ابني".
"كنت أحلم، وكان الحلم وسيلتي الوحيدة لمحاربة الغصة، أحلم بالسحور والافطار معهم في شهر رمضان، أحلم بتقبيل يد أمي وتعويضها جزءا بسيطا من عنائها وتنقلها بين السجون، أحلم بأن أبكي وحدي أحيانا شوقا لهم، أو تعويض زوجتي عن سنوات الشقاء الطويلة".
وحينما خرج شنينة بعد خمسة وعشرين عاما، تغيرت الأحلام، لأن الحياة تطورت بشكل سريع لم يعشه ولم يجربه، ويقول مازحا: "حينما رجعت الى البيت صنعوا لي كبسة على غداء الجمعة، فاستغربت أن هناك أكلات لم أعرفها وهناك مطاعم كثيرة لم أزرها، حينما كنت في السجن لم نكن نأكل سوى المقلوبة والمنسف، وبإمكانيات بسيطة، هناك الكثير من الأشياء قد تطورت، ولكن أجملها أن جزءا من أحلامي التي كنت ابكي عدم تحققها حققها أولادي وزوجتي وأنا في الاعتقال، وتلك كانت قمة الفرح".