الرسالة نت - خلود نصار
رجعت فاطمة المغربي في الصف الثالث الابتدائي من مدرستها حاملة على ظهرها حقيبة كتبها لتدخل من باب مقبرة المعمداني مارة بجيرانها الأموات الذين سكنوا القبور العتيقة , و أشجار شوكية نمت بينها, يسير ظلها بجوارها ليتقاطع مع ظلال شواهد بارزة رسمت على الأرض، لتصل بعدها إلى بيتها المتآكل الذي يحوي أيضا قبرين كبيرين اسودت أحجارهما من القدم, فلم يكن طريق ذهابها و إيابها من المدرسة ممهدا, بل وجب عليها أن تقطع شوطا بين قبورٍ وشواهد.
لم تكن مقبرة المعمداني القديمة الواقعة بجوار ميدان فلسطين وسط مدينة غزة حكرا على جثث الأموات فحسب بل أحيتها بيوت عائلات غزاوية لجأت إليها منذ عام 1948 لتكون مأوى لهم تحول هدوءها السرمدي إلى حياة جديدة.
بعد عناء يوم دراسي طويل خرجت فاطمة من منزلها لتستريح مع إخوتها ووالدها الذي جلس مع جيرانه فوق أحد القبور ووضعوا كؤوس الشاي الساخن على القبر المقابل , ووسط مساكن الموتى رحب هشام والد الطفلة هبة و من معه من الجيران ب"الرسالة نت" لتكون ضيفا عليهم .
يذكر المغربي 37 عاما طويل القامة أن عائلته و جيرانه لم يجدوا ملجأ يأويهم سوى المقبرة بعد هجرتهم من أراضيهم الفلسطينية ويضيف أن أحوالهم المادية لا تسمح لهم بالإقامة في مكان آخر.
وعلى بوابة المقبرة يربط المغربي عربته الخشبية الذائبة وحماره الأبيض الذي يقوده صباحا للعمل عليه في النقل, مقابل أجر زهيد فيقول " ما أخرجه من عملي بالكاد يكفي لإطعام عائلتي" متسائلا "من أين سأحصل على بيت جديد و أخرج من البرية !!"
حياة مرعبة
ووصف المغربي حياته بين القبور " بالمرعبة " و قال وهو مشبكا كلتا يديه ببعضهما البعض" أنا لا آمن على نفسي أو على أولادي من الثعابين والعقارب والجرذان ".
و لدغ ذاكرته ذلك الحادث الذي لم ينسه, ففي مساء ليلة صيفية ظلماء تسلل ثعبان أسود ذو بقع صفراء يبلغ طوله ما يقارب المتر ونصف داخل غرفة نوم المغربي, و الذي بدوره أيقظ زوجته التي أفزعها مشهد الثعبان الذي رأته وسارعت للخروج وطفلها من الغرفة إلى مكان قد يكون أكثر أمنا.
و حمد المغربي الله أنه استطاع أن يقتل الثعبان الذي كان بجوار ابنه الأصغر محمد قبل أن يؤذيه أو يؤذي أحدا من أفراد عائلته.
وعلى مقربة منه يجلس جاره عمر كحيل 50 عاما الذي يسكن في نفس المقبرة، وأشار إلى جحر صغير بجوار أحد القبور تخرج منه العقارب السامة و كشف عن جرح أصاب يده نتيجة للدغة ثعبان سام فما كان منه إلا أن يجرح نفسه بآلة حادة ليتخلص من هذا السم .
و يعيش كحيل الذي اشتعل رأسه شيبا من فقر وضيق فيقول " أعمل حانوتيا في هذه المقبرة وبالغصب بنطعمي حالنا وولادنا , شغلنا متقطع يوم آه و عشرة لأ ".
و لم يكن الفقر مقتصرا على كحيل والمغربي فحسب فهذا ما أكدته الإحصائيات أن ما يقارب 80% من سكان قطاع غزة يعانون من الفقر فيما تظهر أيضا أن نسبة البطالة في غزة تبلغ 39.3% لكن التقديرات غير الرسمية تظهر أن النسبة أكبر بكثير.
انسجام
و على الجهة المقابلة يلعب أحمد وعبد الله وابن عمهم هشام كرة القدم باستخدام زجاجة عصير فارغة بدلا من الكرة التي لم يستطيعوا دفع ثمنها فيقولون " من وين نجيب مصاري؟ " .
فيما انهمكت فاطمة شقراء الشعر في حل واجبها المدرسي و هي متكئة على أحد القبور تقول المغربي بصوت لا يكاد يسمع و قد احمرت و جنتيها خجلا :
" أحل واجبي هنا و العب هناك نط الحبل مع صاحباتي" مشيرة بإصبعها إلى فسحة صغيرة بين قبرين كبيرين , و غم ظروف حياتها الصعبة تفوقت في دراستها فتقول " أخدت عشرين من عشرين في الامتحان" .
و بين القبور يقضي أفراد عائلة المغربي وغيرهم من جيران القبور أوقاتهم , فلا متنفس لهم سوى هذه الفسحة المحيطة بهم و ذلك لضيق بيوتهم المتراصة و التي بالكاد تتسع لنومهم .
و ينصب سكان المقبرة حبال غسيلهم وسط القبور لتجفيف ملابسهم, لينالها شيء من حرارة الشمس و نسمات هواء معدومة داخل منازلهم .
و جلس الطفل محمد 3 أعوام حافي القدمين على الأرض ساندا ظهره على احد شواهد القبور ينبش بالرمال باحثا عن شيء فقده فلم يكن منه إلا استراق نظرات و توزيع ابتسامات طفولية بريئة , ثم يصرخ بصوته الضعيف رافعا نظره إلى السماء "عصفور عصفور" .
و يقول عبد الله بالصف الثالث و هو يتناول بعض حبات من البزر (الِلب) " تعودت على العيشة هنا ولا أريد الخروج " بعكس ابن عمه أحمد ذي البشرة السمراء الذي تمنى الخروج من هذا المكان .
فيما منعتنا والدة المغربي من دخول منزلهم بحجة أن هناك الكثير ممن زاروهم و لم يعملوا على تحسين وضعهم المعيشي .
ذكريات مؤلمة
و يرجع الحانوتي كحيل بذاكرته إلى الوراء .. حيث يذكر مشاهد مؤلمة مرت بهم أثناء حرب الفرقان فيقول : "عندما كنت أحفر قبرا لدفن أحد الشهداء بمساعدة جاري هشام, أطلقت علينا قوات الاحتلال الرصاص بشكل مباشر من طائراتها " فما كان منهما إلا الاختباء في القبر ليحموا أنفسهم من رصاصات قاتلة .
ولم تسلم المقابر من العدوان الصهيوني فيذكر أن خلال الحرب الأخيرة على غزة استهدف الصهاينة 10 مقابر ما بين تجريف و تدمير وقصف مباشر من شمال القطاع إلى جنوبه بحجة وجود مقاومين ومنصات للصواريخ .
و يذكر المغربي أيضا أن بيوتهم ضعيفة البنية زادت تضررا بفعل القصف القريب من منازلهم وإطلاق النار المباشر عليهم, و قد نالت منهم إحدى هذه الغارات فيكشف المغربي وكحيل عن آثار جروح سببتها شذايا أصابتهم أثناء عملية قصف قريبة من منازلهم.
آمال معلقة
و أوضح سكان المقابر أن كثير من المسؤولين قاموا بزيارتهم و وعدوهم بتحسين أحوالهم وإخراجهم من هذا المكان بتوفير أماكن أكثر ملائمة للحياة و لكن دون جدوى .
ومن جانبه يذكر مدير عام المساعدات في وزارة الشؤون الاجتماعية كمال الجماصي أن وزارته تقدم لهذه العائلات مساعدات تمويلية و تأمين صحي و كذلك تزودهم بمبلغ قدره ألف شيكل كل ثلاث شهور وذلك من خلال تقييم الباحثين الاجتماعيين لأوضاع تلك العائلات فيقول : " هذا ما نستطيع تقديمه لا أكثر".
و تمنت تلك العائلات الخروج من بين القبور طامعة في بقعة أرض مخصصة للأحياء فقط دون الأموات .
بدأت الشمس بالغروب و احمر وجه السماء معلنا انتهاء هذا اليوم ليبدأ السكان بدخول منازلهم تاركين جيرانهم الأموات في هدوء وسلام .
ولتغادر المقبرة بطريق آخر وجب عليك اجتياز شوطا بين القبور على أرض غير ممهدة مارا في طريقك بجميع بيوت السكان المتراصة لتدخل من فتحة صغيرة بين منزلين متجاورين فتنحدر من خلالها إلى ممر ضيق أشبه بجحر فأر مظلم شقت المياه العادمة طريقا من خلاله، لترى من بعيد أسوار مقبرة مظلمة احتضنت في داخلها قبور أموات و بيوت أحياء .