"الموت".. من منا يسمع هذه الكلمة ويبقى طبيعيا على حاله دون أن يخاف أو يرتعش قلبه للحظات عند سماعها، فما بالكم بمن يرى الأموات كل يوم ويمسك بهم ويحركهم ويدفنهم.
لم يكن يعلم أن ما خبأته له الأيام والشيء الذي هرب منه في صغره، سيكون هو ذاته قدره في كبره.
بابتسامة عريضة ارتسمت على ملامح وجهه لا تنم عن طبيعة عمله أبدا، استقبل الشيخ رمضان شعبان "الرسالة نت"، وسط تناثر أغراضه التي يعمل بها على طاولة صغيرة في ساحة منزله.
بيته البسيط ينم عن بساطته وقربه إلى القلب رغم أن كثير من الناس يهابونه وينفرون منه، لأنه ببساطة يتعامل مع "الأموات".
قصة الشيخ "أبو مهدي" -كما يشتهر بين الناس- بدأت عندما كان في الخامسة عشر من عمره، يشاهد جده الحاج "رمضان" –الذي سمي تيمنًا به -، وهو يذهب إلى تغسيل ودفن الأموات من الجيران والأقارب بدون مقابل.
الهروب كان سيد الموقف عند رمضان "الصغير" آنذاك، وعادة الناس قديما أن توزع طعاما للجيران عن روح المتوفى، وعندما يأتي إلى البيت من أكل الميت كان يرفض رمضان تناوله لأنه "طعام الأموات" كما يقال.
الجد "رمضان" لم يكن متخصصًا في تغسيل ودفن الأموات، وإنما كان على "البساطة" والفطرة بدون دراسة أو علم، وعلى عكسه فإن الحفيد لم يضيع شبابه وأخذ دورات في فقه أحكام الجنائز بكيفية تغسيل وتكفين ودفن الموتى، فأحبها ومن بعدها انخرط في المجال، فأصبح يغسل دون مقابل.
كبُر رمضان –مواليد مخيم جباليا شمال قطاع غزة- وكان من عمال "إسرائيل" ولم يتعلم في الجامعات (...)، تزوج وأنجب الأبناء، ولم يخطر بباله يوما أن يكون قدره "تغسيل ودفن الموتى".
"لم يضيع شبابه وأخذ دورات في فقه أحكام الجنائز بكيفية تغسيل وتكفين ودفن الموتى
"
بدايته مع الأموات وفق ما يقول رمضان كانت عام 1998، ولم تكن مهنة أو مصدر رزق وإنما فقط من باب الهواية أو تقديم المساعدة للناس، حيث كان يستعين به بعض الجيران والأقارب لغسل وتكفين وفياتهم.
استمر "أبو مهدي" على هذا النحو حتى عام 2005، بشكل غير منتظم إلى جانب عمله الأساس في "إسرائيل".
وبعد إغلاق "إسرائيل" الباب في وجه العمال الفلسطينيين من قطاع غزة، انقطع مصدر رزقه، ولم يتبق له إلا غسل ودفن الأموات، فتوجه إلى مشايخ كبار بغزة، وأجازوا له أن يتقاضى بعضا من المال إن كانت نيته من العمل خالصة لوجه الله وإحياء للسنة.
وفي ذات اللحظة يؤكد الشيخ رمضان لـ"الرسالة نت"، أن هدفه الأساس من هذه المهنة عبادة يتقرب بها إلى الله بنية إحياء سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ثم تكون مصدر رزق يطعم به أبناءه بعد أن انقطع عن العمل في "إسرائيل".
ويستحضرنا هنا قول النبي محمد صلى الله عليه وسلم: "مَن غسّل ميتًا فكتم عليه، غفر الله له أربعين مرة"، وهو ما دفع الرجل للتمسك بهذه المهنة والبقاء فيها إلى اليوم رغم نفور بعض الناس منه.
التجربة الأولى
وعن تجربته الأولى كيف كانت، يذكر رمضان تفاصيل ذلك اليوم من التجربة فيقول: "أول مرة غسلت فيها ميتا بقيت لثلاثة أيام لا أتناول الطعام ولا أعرف للنوم معنى، حتى أنني هجرت زوجتي وقتها من شدة هول منظر الموت وتأثيره علي".
أما الآن فقد أصبحت عنده روتين عادي أو أمر عابر مع الممارسة والتعود كما يضيف.
وكان يحضرنا اللقاء ابنه الصغير وأحد أصدقائه القدامى، الذي سأله عن تعرضه للأحلام أو الكوابيس بمن يكفنهم ويدفنهم، فكان رد الشيخ رمضان أسرع من السؤال بالقول: لا لم أحلم في حياتي بأحد إلا شخص واحد فقط جاءني في المنام.
"هدفه الأساس من هذه المهنة عبادة يتقرب بها إلى الله بنية إحياء سنة النبي
"
وبعد تشوق الحضور وطلبهم التحدث عن الحلم، سرح "أبو مهدي" قليلا بخياله ثم تابع: "كنت قد كفنت ودفنت طفلا في حرب حجارة السجيل الأخيرة بأموال أحد المتبرعين، فليلتها حلمت أنه جاءني إلى بيتي وقال لي خذ مالك الذي أعطيتني إياه أنت وصاحبك، وغادر المكان على الفور".
وخلال حربي "الفرقان وحجارة السجيل" لزم أبو مهدي مستشفى كمال عدوان، وكان يتواجد عند ثلاجات الموتى يكفن الشهداء.
بمشاركة "الكفن والاباريق والعطر والكافور والسدر والباخور"-أدوات غسل الموتى- يتابع الشيخ رمضان: "قبل عام 2005 لم يكن عندي مكان أو أغراض التكفين، أما بعد الانقسام تحديدا أصبح بيتي كمكان للعمل وبدأت أشتري أغراض الغسل والتكفين، وأي أحد يحتاجني يأتي للبيت أو يتصل بي على هاتفي المحمول".
أهل الخير والشر
شغف مراسل "الرسالة نت" ومن معه لم يتوقف عند هذا الحد وسألوا "الحانوتي" عن أكثر وأشد المواقف التي واجهته في هذه المهنة بحلوها ومرها.
الرجل رفض في بداية الأمر الحديث عن ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يغسل موتاكم الا مؤتمن"، وعلى حد تعبيره الائتمان هنا على أسرار الميت.
ومع اصرارنا الشديد عليه وافق الشيخ أبو مهدي الحديث، عاد بذاكرته قليلا إلى الخلف ليستذكر أبرز المواقف، واكتفى بذكر موقفين فقط ولم يقبل بالزيادة عليهما.
فقبل حوالي عام وفي ذات ليلة اتصل عليه أناس طلبوه للحضور صباح ثاني يوم لغسل ميتهم، وكان قد توفى الرجل بعد صلاة المغرب، وعندما حضر "أبو مهدي" في اليوم التالي وجاؤوه بالجثة بعد 14 ساعة من وفاتها، كانت ما تزال ساخنة وجسم المتوفي لين جدا وسهل في الحركة، وبعد تغسيله أصبح وجه الرجل كالثلج.
"لا أهاب الموت لكني أخاف من شر إنسان
"
ذلك الموقف أدهش الشيخ رمضان ما دفعه لسؤال ذويه عنه فقالوا له أنه كان رجل إصلاح ويحب الخير للناس. من جمال الموقف وشدته تمنّى أبو مهدي أن يكون مكان ذلك الرجل لشدة ظهور ملامح الخير عليه، كما يقول.
أما عن أشد المواقف صعوبة فيروي لنا المشهد الذي لن ينساه طوال حياته وفق قوله، "أحد الأشخاص ظهرت عليه ملامح أهل الشر والعياذ بالله، فتحت ثلاجة الموتى بمستشفى الشفاء فلفحت وجهي سخونة غير طبيعية، وكان جسمه أسودا، فسألت عن الرجل وعلمت أنه تاركا للصلاة وكان يقترض كثيرا من البنوك".
وعن تأثره بتلك المواقف يقول: "عندما أواجه منظرا فظيعا أتأثر فألتزم بالمسجد وارتبط فيه عددا من الأيام، وينعكس هذا الأمر على البيت، أما من تكون خاتمته خير، أشعر بنفسية مرتاحة وأعود طبيعيا إلى بيتي وأهلي".
أما أصعب يوم في حياته، فكان يوم مجزرة جباليا عام 2004، وقتها عاد من مستشفى كمال عدوان إلى زوجته وكأنه مغسل بالدم، كما يصف، "فوجدتها بانتظاري على باب المنزل ولم تسمح لي الدخول للبيت إلا بعد رشّي بالمياه وتنظيفي من دم الأموات".
"أخاف شر إنسان"
وعند سؤال "الحانوتي" رمضان إذا ما كان يخاف الموت؟ تغيرت ملامح وجهه لثواني وعاد برأسه إلى الخلف، وأجاب دون تردد "لا طبعا فالموت من الله وهو قدر وراحة للمؤمن".
ويقاطعنا صديقه ورفيق دربه بالعمل في "إسرائيل" الذي كان يحضر الجلسة بالقول: "رمضان عمره ما خاف من الموت وقلبه ميت ولا حتى من اليهود، فعندما كنا نعمل معا دخل وزارة الدفاع الإسرائيلية وسط تل أبيب وأخذ منها بعض الأشياء لا زال يحتفظ بها إلى اليوم في منزله".
ويضيف رمضان على قول صاحبه "كنت أدخل كنسهم وأخرب الأبواب والأثاث، حتى أنني أذّنت وسط تل أبيب، وما كنت أخاف لأنني أعرف أن الآجال والأعمار بيد الله".
ويعود الحانوتي أبو مهدي ليرد على سؤال "الرسالة نت"، مستدركا: "لا أهاب الموت لكني أخاف من شر إنسان، هي الشغلة الوحيدة التي أكون عندها جبان، فهي مصيبة بالنسبة لي ولا يحمد عقباها".
"لا يمانع الشيخ رمضان أن يورث مهنته لأبنائه
"
ومن شدة خوفه من "شر بني آدم" على حد قوله، فإنه كان يبكي أيام الانقسام بين حركتي حماس وفتح، والتزم بيته حينها، حتى أنه عند وقوع خلاف أو مشكلة بين اثنين لا يتدخل ويهرب منها.
وعن طبيعة علاقة الشيخ "أبو مهدي" مع الناس فيقول: "الناس تنفر مني، وهناك بعض الأشخاص تفر من أمامي مجرد أن تراني، وآخرون يهربون من جانبي في الصلاة، أما أنا فشعوري عادي لأن الموت حق، وهذه قلة ايمان".
أما عن علاقته بالأقارب والجيران والأصدقاء فيؤكد رمضان أنها طيبة وعادية، "وهذا لا يمنع وجود بعض من يخاف التعامل معه، لأنه يتعامل مع الأموات" يكمل الشيخ رمضان.
"الجد والأب والابن"
ولا يمانع الشيخ رمضان أن يورث مهنته لأبنائه، فهو بدأ في ذلك فعلا بتعليم ابنه الأكبر "مهدي" -20 عاما- أصول المهنة، ويدرس حاليا في الجامعة تخصص تربية عربية وأصول دين، كما أنه يعلمه غسل الأموات.
وخلال الحديث عن مهدي وصل للتو من جامعته ليشاركنا النقاش، وأول سؤال كان له، ما رأيك في مهنة والدك وهل تقبل أن تعمل بها؟ فكان الجواب سريعا من الشاب العشريني دون تردد: "هي مهنتي من الآن أصلا، وبدأت تعلمها جيدا قبل عام"
مراسل "الرسالة نت" اندهش من رد مهدي السريع فكان السؤال الثاني مباشرة لماذا تريدها مهنة لك؟ فأجاب "التعامل مع الميتين أفضل من الأحياء، لأنه ما في منهم ضرر".
وعن أول يوم دخل فيه على ميت برفقه والده يضيف الشاب: "أول ميت دخلت عليه كان من أحد الأقارب، وتعاملت معه على أنه شخص نائم عادي، أما اذا تعاملت معه على انه ميت بتخاف".
ويخاف بعض الأصدقاء من مهدي فمنهم من يتجنبه أو لا يقترب منه لخوفهم من الموت، وهناك من يتهمه بأن "قلبه ميت" –كما وصف صديق والده قلب أباه-.
في البداية شعر أنه وحيدا، ولكن بعد ذلك أصبح الأمر عاديا عنده ولا يبالي من كلام الناس.
وتمنى الأب والابن أن يتعظ الناس من الموت، ويعملوا لآخرتهم دون الخوف منه لأنه قدر من الله لا هروب منه، وفق قولهم.
(عدسة: محمود أبوحصيرة)