وكأن على المقدسي أن يتعود كيف يقاوم عاري الصدر وحده، يحمل وزر ما يفعله الساسة على أكتافه، ثم يعيد البوصلة نحو الوجهة الصحيحة، فتقفز القدس إلى واجهة كل القضايا وتتصدر المقدمة.
بالأمس حدثت مجزرة، بدأت في الشيخ جراح قم مرت بشهيدين في جنين وانتهت بثورة كاملة في المسجد الأقصى، وكل أشكال الغضب الفلسطيني تبدأ من هناك، وكأن القدس حملت على أكتافها وزر إعادة الأمل إلى نفوسنا كلما استوطنها اليأس.
تصدرت قضية الشيخ جراح، ليس لأنه حي عادي سيقام فيه مشروع استيطاني، بل لأنه الحلقة الأخيرة المتبقية في خريطة القدس، وبه ستشرذم المدينة وتتقطع أوصالها فموقعه الجغرافي الذي يربط شرق المدينة بغربها، وشمالها بجنوبها يجعله مفتاحا حقيقيا لربط سكان المدينة بعضهم ببعض ويقف كمسمار جحا في المنتصف، فإن تحول لمستوطنة تقسمت القدس إلى أربع.
ولأن أهالي القدس لا يخيفهم شيء، بدأت الهتافات تتخطى الشيخ جراح، الذي عزله الاحتلال عن المدينة وأغلقه على أهله المعتصمين أمام أبوابهم صباح مساء، بعد أن بدأت ملامح الخوف الإسرائيلي تبدو على وجوه مستوطنيه، وغادرت أول عائلة مستوطنة في الشيخ جراح خوفا مما يجري.
خرجت أصوات أهالي الشيخ جراح، ووصلت إلى أبواب بيت المقدس، ولأن هناك مشروع أخر يتأهب له المقدسيين في الثامن والعشرين من رمضان، حيث ينوي الاحتلال اقتحاما جديدا فريدا من نوعه للأقصى، كان ذلك دافعا مؤججا لغضب استباقي، وشكل كابوس رعب لدى المحتل الذي بدأ ليلته من صلاة التراويح بإطلاق النار على صفوف المصلين في باحات الأقصى وهم لا زالوا على آمنهم خاشعين في سجودهم.
وسجدة تتلوها سجدة، ولأن في القتال صلاة أخرى، رفع المقدسيون رؤوسهم وإذا بالاحتلال يفقد عقله، ويغلق كل بوابات المسجد القبلي ومسجد قبة الصخرة على المعتكفين دون مراعاة وجود النساء والأطفال وكبار السن، وحتى ذوي الاحتياجات الخاصة بينهم.
ثم بدأت صرخات المعتصمين تعلوا عبر وسائل الاعلام الالكترونية وصفحات المقدسيين تنادي بالنفير إلى الأقصى، فينفر المقدسيون دون سؤال عن طبيعة ما حدث.
هوجم كل شيء، دخل المجندون إلى باحات المساجد، من باب المغاربة وباب السلسلة، وهاجموا المصلين العزل، الأشجار، والمستشفى التابع للأوقاف في الأقصى، كل شيء غطته الروائح المنبعثة من قنابل الغاز، وأصوات المآذن والصلوات ارتفعت عليها أصوات الرصاص والقنابل.
الاحتلال الذي لم يشفي غليله مما فعله في أهالي الشيخ جراح، يصر على تطبيق خطته القادمة، هكذا ببساطة يريد تفريغ الأقصى ومنع مواصلة الاعتكاف لأنه يدبر اقتحاما للأقصى يوم الإثنين 28 رمضان.
كل هذا الإصرار والتحضير المسبق لجماعات المعبد، والقمع لتفريغ الأقصى من شرطة الاحتلال يؤكد أن هناك عدواناً عاتياً مبيتا، قد يكون الأعظم والأخطر بل قد يكون فاصلا في تاريخ القضية الفلسطينية، والأهم أنه سيصرف الأنظار عن قضية الشيخ جراح.
وقد رصد الهلال الأحمر المقدسي 163 اصابة بالأمس في باب العامود والشيخ جراح وفي المسجد الأقصى نقل منها 83 لمستشفيات القدس بحالة حرجة، بينما عالج المستشفى الميداني الحالات المتبقية.
انتهت الليلة ما بعد منتصف الليل بساعات، والاصابات معظمها في الوجه والرأس حيث فقد ثلاثة من المعتكفين أعينهم، وقد تركت ساحات المسجد ما قبل الفجر بقليل مليئة بالكراسي المكسرة وعبوات المياه والأحذية وأجهزة المحمول التي سقطت من أصحابها .
أمّا ساحات المسجد، من ناحيته الغربية وهو الموقع الذي جرى منه الاقتحام الإسرائيلي، فكانت مليئة بالحجارة التي استخدمها المصلون للدفاع عن أنفسهم .
ولكن شباب القدس وحدهم من تولوا أمر الرباط والدفاع عن أقصاهم لم يتركوا المسجد على صورته الأخيرة التي فرضتها همجية المحتل، بل تولوا أيضا أمر تنظيف الباحات وإعادة الصورة الجميلة إلى الواجهة مستقبلين المصلين لصلاة الفجر، وبداية يوم جديد.
لم ينزل المقدسيون عن برجهم ولن ينزلوا يوما، ولا زالوا يحشدون المصلين من كل مكان للاعتكاف والتضامن والرباط داخل الأقصى، ولا زالوا ينتظرون ما الذي سيحدث في الثامن والعشرين من رمضان، فمعركتهم التي بدأت منذ سبعين عاما لم تنته بعد.