بعد سريان وقف إطلاق النار، بين فصائل المقاومة في غزة ودولة الاحتلال، في 21 الشهر الماضي (مايو/ أيار)، دخل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، في تفاعلاتٍ معقّدة، تعكس تعمّق المأزق الإسرائيلي، سياسياً واستراتيجياً وأمنياً، في مواجهة "الهبّة الشعبية الفلسطينية"، التي ربما تكون إرهاصاً لمرحلة أخرى في إقليم الشرق الأوسط، وربما تشهد إعادة الروح إلى الثورات العربية، في ظل بيئةٍ دولية وإقليمية متغيرة.
وعلى الرغم من اضطرار وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكين، للقيام بجولة على (إسرائيل) ورام الله ومصر والأردن 25 و26 مايو/ أيار، بهدف "التهدئة"، ودعم استئناف تقديم المساعدات الإنسانية إلى غزّة، وخشية واشنطن من تحوّل هذه "الهبّة" إلى انتفاضةٍ شاملةٍ في الضفة الغربية، فلا تزال "التهدئة الهشّة" (لعبت القاهرة والدوحة والأمم المتحدة، دوراً مهماً في التوصل إليها)، هي الحاكمة للمشهد الفلسطيني الإسرائيلي، الذي ربما يتجه نحو "توازن ردع"، يكبح جماح الطرفين آنياً، لتوجيه طاقتيهما الصراعية نحو خطاب استنزاف الطرف الآخر، عبر التهديدات والحروب النفسية و"حرب المصطلحات"، ما يؤكّد استمرار الصراع على تفسير نتائج/ تداعيات حرب غزة الرابعة.
وفي إطار تحليل مرحلة ما بعد الحرب، ومستجدّات الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، ثمّة أربع ملاحظات بشأن السياسات/ الأدوار الدولية والإقليمية والعربية والفلسطينية، وانعكاساتها على المنطقة.
أولها احتدام الصراع، دبلوماسياً وسياسياً ودعائياً، بين جهود الاحتواء الدولية/ الإقليمية، وبين روح/ إرادة المقاومة الفلسطينية؛ إذ تحاول واشنطن وحلفاؤها تفريغ النضال الفلسطيني من مضمونه التحرّري، وتحويله قضية إنسانية/ إغاثية، عبر ترويج "مصطلحات مضلّلة"، مثل: العودة إلى وضع الهدوء/ التهدئة السابق (تثبيت وقف إطلاق النار)، و"إعادة إعمار غزة"، و"السلام الاقتصادي"، و"إحياء الشراكة" مع سلطة رام الله و"شركاء السلام العرب"، وإحياء "ثقافة السلام والتعايش والتسوية"، بدلاً من ثقافة الحروب والكراهية و"معاداة السامية".
هدف "حرب المصطلحات" سرقة إنجاز عملية سيف القدس، التي استعادت زمام المبادرة من دولة الاحتلال، وربما تكون أقوى رد شعبي فلسطيني على "صفقة القرن" التي أراد منها كلٌّ من الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، تصفية قضية فلسطين، خصوصاً عبر الاعتراف بالقدس عاصمة لـ(إسرائيل)، ونقل السفارة الأميركية إليها.
وعلى الرغم من ذلك، يبدو أن المقاومة الفلسطينية نجحت في هذه الحرب على غزّة، في فرض "تغيير نوعي"، ربما لم يحدُث منذ توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، كما يتّضح من تفاقم المأزق الإسرائيلي، سواء على الصعيد السياسي، أم الاستخباري، أم غياب الرؤية الاستراتيجية في التعامل مع "الغضب الفلسطيني المتصاعد"، الذي تجلّى في الإضراب الشامل في فلسطين التاريخية 18 مايو/ أيار الماضي.
والمؤكد أن "تشظّي" النظام السياسي الإسرائيلي، وغياب حزب "مهيمن" يستطيع قيادة ائتلاف حكومي متماسك يستمر لعدة سنوات، واشتعال التنافس الشخصي والأنانية السياسية وتفشّي خطاب الكراهية، كلها عوامل تؤثر على القرارات الاستراتيجية الإسرائيلية، سواء تعلق الأمر بإيران وبرنامجها النووي، أم التصدي لحركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية، أم تفاقم الخلاف بين رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وأركان إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، التي ربما تفضّل إزاحة نتنياهو، كما يتضح من "استدعاء" وزير الحرب الإسرائيلي، بيني غانتس، إلى واشنطن، ولقاءاته مع وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي جاك سوليفان، خصوصاً أن الزيارة جاءت بعد تصريح نتنياهو عن أولوية إزالة التهديد الوجودي الإيراني لـ(إسرائيل)، حتى لو غضبت واشنطن.
وبغض النظر عن فرص نجاح حكومة نفتالي بينيت ويائير لابيد، في مواجهة تناقضاتها الداخلية ومساعي نتنياهو (تحريض أحزب اليمين بالخروج منها، أو عدم منحها الثقة ابتداءً)، يبدو أن العلاقة الأميركية الإسرائيلية قد دخلت مرحلة "ما بعد نتنياهو". كما أن علاقة حركة حماس/ فصائل المقاومة في غزّة مع دولة الاحتلال تبدو أيضاً في طور التغيّر، بعد كشف الصواريخ "ثغرات" في نظام "القبة الحديدية".
ومن دون مبالغة في إنجاز المقاومة الفلسطينية، يبدو أن صفقة "تبادل أسرى" ربما تكون في الأفق، سيما أن خطاب رئيس المكتب السياسي لحماس في قطاع غزة، يحيى السنوار، وظهوره العلني بعد الحرب، ينطويان على رسائل تحمل معاني القوة وتحدّي الاحتلال والحرص على "الوحدة الوطنية"، وهي مفرداتٌ غابت عن الخطاب الرسمي الفلسطيني، منذ وفاة الرئيس ياسر عرفات أواخر عام 2004.
تتعلق الملاحظة الثانية بالخلافات التي أثارها العدوان الإسرائيلي، بين مواقف واشنطن وباريس وبكين، في مجلس الأمن، وبروز فكرة برلين حول إمكانية "الحوار غير المباشر" مع حركة حماس. وعلى الرغم من حدوث "تغير محدود" في المواقف الدولية من حرب غزة، فقد نكون إزاء "توزيع أدوار" بين هذه القوى الدولية، بغرض "تطويع" حركة حماس، وتكريس صراعها مع حركة فتح وتجديد الانقسام الفلسطيني، عبر زيارات مسؤولين دوليين وإقليميين إلى سلطة رام الله، والوعود بتدفق المساعدات المالية عليها، مع الاستمرار في "عزل" الحركة و"معاقبتها"، ومنعها من تعزيز حاضنتها الاجتماعية وصورتها في الشارع الغزّي.
وقد بدا لافتاً في هذه الحرب استثمار الصين رئاستها الدورية، مجلس الأمن الدولي، بهدف إظهار سلوكها "دولة عظمى ومسؤولة وتعمل على حل الأزمات الدولية" بخلاف واشنطن؛ إذ طالبت بكين بأن تؤدي الأمم المتحدة دوراً فاعلاً في السعي إلى حل الدولتين، ودعت الطرفين، الإسرائيلي والفلسطيني، إلى إجراء محادثات مباشرة في الصين، ما يؤكّد أنها أرادت، "مناكفة" إدارة بايدن، وكشف تجاهلها حقوق الإنسان الفلسطيني في غزّة، على الرغم من التركيز الأميركي/ الغربي على مسلمي الإيغور.
وفيما يتعلق بالموقف الروسي من حرب غزّة، اكتفت موسكو بالاتصالات الدبلوماسية، والدعوات إلى التهدئة، وتجنّب استهداف المدنيين في الطرفين. بالإضافة إلى دعوة وزير الخارجية، سيرغي لافروف، إلى توسيع اللجنة الرباعية الدولية، (لتضم مصر والأردن والسعودية والإمارات والبحرين وفلسطين وإسرائيل). وعلى الرغم من علاقة روسيا مع حركة حماس، واستقبال قادتها عدة مرات سابقة، فإن موسكو حافظت على توازناتها في علاقتها مع (إسرائيل) والعرب، وحرصت على عدم استفزاز الأميركيين في هذه المرحلة الدقيقة، من العلاقات المتوترة أصلاً، مع إدارة بايدن.
على صعيد آخر، طغى على الدور الأوروبي ترقّب خطوات واشنطن، لحل هذه الأزمة، على الرغم من التصريحات الأوروبية بشأن أولوية أمن (إسرائيل) وضرورة حل الدولتين، وزيارة وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، (إسرائيل)، ثم زيارة وزير الخارجية البريطاني، دومينيك راب، تل أبيب ورام الله، واكتفاء وزير الخارجية الفرنسي، جان - إيف لودريان، بالتحذير من "احتمال حصول فصل عنصري" في إسرائيل، في حال عدم التوصل إلى حل الدولتين، ما ردّ عليه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بأنها "مزاعم خاطئة، وأن بلاده لن تقبل مواعظ منافقة"، في هذا الشأن. وربما حدث الخلاف الفرنسي الإسرائيلي، بسبب رغبة الرئيس، إيمانويل ماكرون، في تصدّر الموقف الأوروبي، بعد اتصالاته مع رؤساء مصر والأردن وتونس، ثم تقديم فرنسا مشروع قرار إلى مجلس الأمن 18 مايو/ أيار، يدعو إلى "وقف العمليات العسكرية" و"إيصال المساعدات الإنسانية"، إلى قطاع غزة المحاصر.
وقد اضطرت واشنطن للتحرّك، بعد منعها أربع محاولات في مجلس الأمن، لمناقشة تطورات الحرب (ثلاثة بيانات اقترحتها الصين وتونس والنرويج)، ثم مشروع القرار الفرنسي. وبعد تجاهل دام أكثر من أسبوع، تغيّرت لهجة إدارة بايدن لثلاثة أسباب؛ فشل نتنياهو وقوات الاحتلال في تحقيق إنجاز حقيقي، على الرغم من السماح الممنوح لهم أميركياً. ضغط الجناح التقدّمي في الحزب الديمقراطي الأميركي، على الرئيس بايدن، لكي يتخذ موقفاً أقوى، سيما بعد قصف "برج الجلاء" في غزة، الذي يضم مكاتب لوسائل إعلام دولية. استمرار ضغط فصائل المقاومة بالقصف الصاروخي، وتصاعد "الهبّة الشعبية الفلسطينية"، وخشية واشنطن من تحوّلها إلى انتفاضة شاملة في الضفة الغربية.
وعلى الرغم من استمرار الانحياز الأميركي لإسرائيل، فقد شهدت مقاربة بايدن تغيراً "خطابياً/ لفظياً"، عبر خطوات جزئية/ شكلية مثل: الوعد بإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، وتوفير 360 مليون دولار من المساعدات الأميركية، بشرط ألا تصل إلى أيدي حركة حماس، وتحميلها مسؤولية الخراب في غزة، وأخيراً تنشيط الدورين، المصري والأردني، في عملية التسوية.
تتعلق الملاحظة الثالثة بتداعيات الحرب على مآلات "صفقة القرن"، سيما في بعدها الإقليمي/ الخليجي، المتعلق بدمج (إسرائيل) والتطبيع معها، مقابل عزل تركيا وإيران وباكستان؛ إذ ربما تشهد سياسة واشنطن تجاه إعادة تشكيل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط "تغيراً"، عبر إعادة إدماج (إسرائيل) ومصر والأردن وسلطة رام الله، معاً، بغرض احتواء "حماس" والتضييق عليها. ويبدو أن دور الإمارات يشهد تراجعاً، على الرغم من حرصها الشديد على التطبيع مع (إسرائيل)، وربما يتراجع دور السعودية أيضاً في المرحلة المقبلة.
تتعلق الملاحظة الرابعة بتقييم المواقف العربية من الحرب؛ إذ جاءت أغلبها ضعيفةً ومتأخرة، باستثناء بذل مصر والأردن وقطر وتونس الجهود الدبلوماسية لوقف إطلاق النار، وتقديم كل من القاهرة والدوحة مبلغ 500 مليون دولار لـ"إعادة إعمار غزة"، وجهود مجلس الأمة الكويتي، برئاسة مرزوق الغانم، لإقرار قانون يحظر التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي.
واستطراداً في تحليل مستجدّات دور مصر في غزة، ثمة قيود هيكلية تمنع تغيير التوجه الاستراتيجي لمصر، أهمها الحفاظ على اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية (مارس/ آذار 1979)، ومحاولة دفع إدارة بايدن إلى اتخاذ مواقف مساندة للقاهرة، في قضية سد النهضة، ضد إثيوبيا، و"محدودية/ تكتيكية" مقاربة النظام المصري، بسبب تركيزها على توظيف فرص "إعادة إعمار غزة"، لتحقيق مصالح اقتصادية وأمنية، وتأكيد محورية الدور المصري في فلسطين وليبيا، والعالم العربي إجمالاً.
صحيحٌ أن المقاومة امتلكت عنصر المفاجأة، بل والمبادرة في هذه الحرب، وفرضت معادلة جديدة تربط قضية القدس مع غزّة، وقصفت خط إيلات عسقلان بالصواريخ، ما أدّى إلى عرقلة/ إبطاء مساعي أبو ظبي (لتولي قيادة العرب في التطبيع الاقتصادي/ السياحي/ التقني/ السيبراني مع (إسرائيل)، بيد أن ذلك لا يكفي وحده لاستعادة مصر دورها الإقليمي كاملاً، لأنه يعتمد على تغيير توجهات القاهرة نفسها، وعودتها إلى المسارات الديمقراطية الداعمة للثورات العربية، ومطالبها المحقّة في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية.
يبقى القول إن استعادة قضية فلسطين مكانتها الرمزية/ المحورية في العالم العربي قد تشكّل رافعة للثورات العربية، مع التأكيد أن الصراع المستقبلي في المنطقة، يستهدف الوعي والذاكرة والكرامة، خصوصاً لدى جيل الشباب العربي، ولذلك سيتصاعد الصراع على تفسير ما بعد حرب غزّة، لأن تفسير نتائجها يبقى جزءاً من الحرب ذاتها، بهدف احتواء/ إجهاض انعكاسات الهبّة الشعبية الفلسطينية، عربياً، سيما في مسيرات العودة، من الأردن ولبنان إلى فلسطين، ومسيرات التضامن الشعبية الواسعة، عربيا وإسلاميا وعالمياً، التي تشكّل بسلميتها وآلياتها في الحشد والتعبئة، "كابوساً حقيقياً"، لـ(إسرائيل) وحلفائها من "المطبّعين العرب"، كونها تؤكد الفشل الذريع في انتزاع قضية فلسطين، من الوجدان الشعبي العربي، والضمير العالمي الإنساني.
العربي الجديد