كاتب صحفي
لا يمكن وصف سلوك قيادة السلطة الفلسطينية في قضية اغتيال المعارض السياسي نزار بنات سوى بــ "الاستخفاف"، لاسيما في ظل محاولاتها المستميتة لتمرير الجريمة عبر قمع الشارع الفلسطيني الغاضب، وإظهار "العين الحمرا" للصحفيين والصحفيات، مفاقمة بذلك حالة الاستياء الشعبي من جريمة الاغتيال التي شكلت علامة فارقة باستهدافها لشخص عبر عن نبض الشارع الفلسطيني دون رتوش ودون أي حسابات حزبية، فضلاً عن كونها تعكس عقلية أمنية عفى عليها الزمن، ولا تنتمي بحال من الأحوال للعصر الحديث، الأمر الذي يعزز قناعة الشارع الفلسطيني بضعف السلطة وعدم أهليتها لقيادة المشروع الوطني الذي تحول لمشروع استثماري لقياداتها على حساب المواطن المطحون.
إن حالات الانسحاب المتتالية من لجنة التحقيق التي شكلتها حكومة اشتية تعكس حجم الشك في نزاهتها، وغياب القناعة بقدرتها على إحقاق الحق وضمان تحقيق العدالة عبر محاسبة المتورطين في ارتكاب الجريمة بمختلف مستوياتهم الوظيفية، لاسيما أن رئيس الحكومة ذاته في دائرة الاتهام باعتباره وزيرا للداخلية، وإليه تعود مرجعية الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، فضلاً عن رفض عائلة بنات الاعتراف بنتائج لجنة التحقيق التي تأتي كمحاولة لامتصاص غضب الشارع الفلسطيني أكثر من سعيها لتحقيق العدالة، فهذه اللجنة يصدق فيها الوصف باعتبارها "رفع عتب مش أكتر"، لاسيما أن لجان التحقيق في قضايا مختلفة وسابقة تعزز الانطباع بعدم جدوى التعويل على أي لجنة تحقيق حكومية.
ومما يعزز ضرورة تشكيل لجنة تحقيق وطنية مستقلة حجم الاستهداف للصحفيين ومعداتهم من قبل الأجهزة الأمنية، باعتبار ذلك رسالة بالغة الوضوح برغبتها طي الملف وإشغال الشارع الفلسطيني بقضايا أخرى تحرف البوصلة عن مسار ملاحقة ومحاسبة المتورطين في ارتكاب جريمة اغتيال الناشط بنات، لاسيما أن ذلك يمس قيادات وزانة في السلطة وحكومتها، وبخلاف حالات فساد وجرائم سابقة، فثمة إصرار شعبي على ضرورة دفع ثمن الجريمة وعدم السماح بمرورها مرور الكرام باعتبار ذلك ناقوس خطر يهدد أمن واستقرار المجتمع الفلسطيني ويشكل تربة خصبة لتكرارها بما يحرم المواطن الفلسطيني من أبسط حقوقه بحرية الرأي والتعبير ويسلبه أمنه الشخصي أمام تغول وتوحش الأجهزة الأمنية ومن يقودها.
وتبدو الحاجة ملحة لإجراء "آبديت" للعقلية الحاكمة في رام الله حتى تواكب مستجدات ومتطلبات العصر الحديث، وحتى تدرك عقم الطرق التقليدية في مواجهة الرأي العام الغاضب، وعدم إمكانية هضم حقوق المواطنين دون دفع ثمن ذلك، لاسيما في ظل إعلام المواطن الخارج عن سيطرة الأنظمة والأحزاب، وما أتاحته منصات التواصل الاجتماعي من فضاء رحب وواسع أمام الجمهور للتعبير عن رأيه بكل حرية وبعيداً عن قيود الإعلام الرسمي والتقليدي، فالراحل نزار بنات هزم إعلام السلطة بتسجيلات مصورة بثها على منصات التواصل الاجتماعي، واغتياله مجرد رسالة من السلطة الفلسطينية للمواطن مفادها "إخرس، لا أريد أن أسمع صوتك"، دون أن تدرك أن جيل الفيسبوك والتوك توك والانستجرام تجاوز ذلك، ولا مجال لحرمانه من حرية تداول المعلومات والتعبير بحرية عن الرأي.
يجدر بقيادات السلطة الطاعنة في السن إجمالاً أن تدرك أنه مضى عهد تضليل الرأي العام وإخفاء وحجب المعلومات، وأن عهد استفراد الأنظمة الحاكمة بالإعلام وتوجيه الرأي العام ولى بغير رجعة، وأن المفاهيم اختلفت وبتنا أمام إعلام المواطن الذي بات تأثيره يفوق ويتجاوز مؤسسات إعلامية بطواقمها وخبراتها وإمكانياتها، لاسيما أن قوة الإعلام أساسها المصداقية والثقة بين المرسل والمستقبل، وتاريخ إعلام الأنظمة يظهر عمق الفجوة بين المواطن والإعلام الرسمي الذي يسبح بحمد السلطان صباح مساء، ولا تحضر لديه أجندة المواطن إلا بقدر يسمح به الحاكم بأمره، لذا فالإعلام الرسمي في واد والمواطن وإعلامه في واد آخر.
وحتى الــ "أبديت" لعقلية قيادة السلطة لا يكفي بل المطلوب "فورمت" للقيادة ذاتها، وفتح الأفق والطريق أمام الشعب الفلسطيني لاختيار قيادة قوية وقادرة على التعبير عن طموحه وآماله والدفاع عن حقوقه ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي، ولا سبيل لذلك سوى بالعودة إلى صندوق الاقتراع، وهذا ما تخشى مواجهته قيادة السلطة التي فرت من الاستحقاق الانتخابي الذي كان مقرراً خلال شهر مايو الماضي.