بين الفينة والأخرى، يجري الحديث عن تسريب عقارات في المدينة المقدسة تحديداً في أزقة أحيائها القديمة والملاصقة للمسجد الأقصى، في ظل صفقات سرية تدور رحاها بصمت في أروقة المدينة، يرافقها تعتيم من أجهزة أمن السلطة الحاضرة الغائبة في هذه الصفقات!
وشهدت مدينة القدس على مدار السنوات الماضية تسريب عشرات العقارات السكنية والتجارية التي تعود ملكيتها لعائلات فلسطينية، بطرق ملتوية ووهمية، وعبر خداع أصحابها بأنها ستستثمر لصالح مشاريع خيرية أو تجارية لمستثمرين ورجال أعمال فلسطينيين، أو بدعوى تطويرها وحمايتها من الاحتلال.
وازدادت عمليات التسريب خلال السنوات الماضية لتقاعس السلطة في رام الله، وعدم قيامها بدورها المنوط بها، ودون اتخاذ أي إجراءات عقابية بحق المسربين والبائعين للعقارات؛ ما شجَّعهم على الاستمرار في عمليات البيع وتسريب الأراضي والعقارات المقدسية، خاصة أن الكثير من مسربي العقارات هي شخصيات متنفذة في السلطة.
كيف تعقد الصفقات؟ وأين موقف السلطة منها؟ وكيف تتعامل الأجهزة الأمنية مع تفاصيل المتورطين فيها؟ ولماذا أضعفت السلطة المرجعيات المقدسية ذات العلاقة في محاسبة ومراجعة المتورطين بهذه الصفقات؟
تسريب نشط
يمكن القول إن عام 2016 شكل علامة فارقة في تسريب العقارات، خاصة مع نشاط تطبيعي واضح لدول خليجية نشطت في ذلك العام بالمدينة المقدسة، امتد فعلها حتى محاولة نزع الوصاية الأردنية، في سياق لم يكتب له النجاح بفعل اكتشاف الأردن للمؤامرة ومحاصرته لها، وفق شخصيات مقدسية تحدثت لـ"الرسالة نت".
السعودية والامارات حسب شهادات المقدسيين، برزتا في هذا السياق، لكن الأهم كان الموقف الرسمي لأجهزة أمن السلطة، خاصة جهاز المخابرات في ظل ما ورد من معلومات عن حماية لبعض المسربين، برز تحديداً في صفقة بيع عقار آل جودة.
تسرَّبت 27 شقة في سلوان في عهد وزير إسكان الاحتلال أوري أرائيل، وتركَّزت عملية البيع على شراء منازل أثرية في منطقة "جنوب الأقصى"، وتحديداً منطقة وادي حلوة، بجوار منطقة القصور الأموية والعباسية، وهي منطقة تمتدّ من محراب الأقصى القبلي نزولاً إلى مسجد سلوان، بحسب جمال عمرو المختص بالشأن المقدسي في حديثه لـ"الرسالة".
وبموجب الصّفقات التي قام بها وسيط معروف لأهل المدينة، جرى شراء شقق من مستأجرين لا يملكون هذه البيوت، وسمح لبعضهم ببناء طوابق عديدة فوق بيوتهم المهترئة، وبعد تحقيق اللجان المقدسيّة، ثبت وقوف جهات خليجية خلف المشتري، وفقا لعمرو.
وتنشط 27 مؤسَّسة (إسرائيلية) في عملية البيع والشراء، أهمها شركات "إلعاد" و"بيت كوهنيم" و"غوش أمونيم"، وهي تقدم دعماً سنوياً بـقرابة 40 مليون دولار، وقد أوكل إليها التصرف بالعقارات في محيط الأقصى وحفر الأنفاق في أعماقه، وهي المسؤولة عن تشييد "مدينة داوود" أسفل الأقصى.
وكان الأكثر فظاعة من بين الصّفقات بيع "بيت حي السعدية" لصاحبه "أديب جودة"، وهو يعمل محققاً في شرطة الاحتلال، ومسؤولاً حصرياً عن مفتاح كنيسة القيامة.
وباع جودة منزله بمبلغ 17 مليون دولار، تقاضى منها مليوني دولار، كما اعترف في لجان تحقيق شُكّلت لاحقاً، وكانت الإمارات حاضرة بالاسم، وإن أشارت أصابع الاتهام إلى تورط أجهزة فلسطينية في القضية، تبعا لما أشارت إليه شخصيات مقدسية متابعة "للرسالة".
أين السلطة؟!
يمكن الإشارة هنا لمجموعة من الأدوار المباشرة وغير المباشرة للسلطة في عملية تسريب العقارات، فالدور المباشر تمثل في رعاية وفود خليجية تطبيعية ساهمت في تعزيز عملية التسريب للعقارات، بوصف قيادات مقدسية.
من أبرز هذه الوفود وفد سعودي تطبيعي زار المدينة عام 2016 برئاسة اللواء السعودي المتقاعد أنور عشقي، ليقول الأخير إن زيارته جرت بالترتيب مع اللواء جبريل الرجوب.
استُقبل عشقي في الأراضي الفلسطينية، بالترافق مع زيارات رسمية عقدها في (تل أبيب) مع مسؤولين (إسرائيليين)، وفق ما أقر به في حديثه لـ"الرسالة".
حينئذ اتهمت فصائل العمل الوطني، السلطة بشرعنة عملية التطبيع، عبر تسهيل مجيء شخصيات خليجية الى الأراضي المحتلة.
لكن هذا الدور لا يكشف بالحتمية عن التورط المباشر للسلطة، فيما تشير مصادر مقدسية "للرسالة"، تعمّد السلطة منع أي لجنة رسمية للتحقيق في تسريب عقارات، رغم معرفة أهل القدس للمتورطين، ما دفع علماء مقدسيين لإصدار فتاوي تحرم التعامل مع هذه الشخصيات، دون اتخاذ مسار قانوني وأمني في التعامل معها من طرف السلطة.
وتشير المعلومات التي وصلت للرسالة عن تورط ماجد فرج وجهازه وشخصيات محسوبة عليه في صفقة جودة، ما يؤكد ذلك غياب مخابرات السلطة شبه التام عن متابعة المتورطين في جرائم البيع.
تتذرع السلطة بعدم وجود دور لها داخل السور في مدينة القدس، لكنّه اتهام تفنده جريمة السلطة الأخيرة بحق الناشط نزار بنات، "فمن استطاع اقتحام منطقة تخضع أمنياً لسلطات الاحتلال، يمكنه القيام بالخطوة ذاتها لو أنه أراد مع المسربين".
بل تجاوزت السلطة أكثر من ذلك، بتسليمها المتهم الرئيس بتسريب العقارات وليد عقل إلى السلطات الأمريكية عام 2019.
الوصاية
بالترافق مع التسريب الفردي للعقارات، برزت قضية تسريب العقارات المسيحية، وهي جريمة سلّط الضوء عليها عدد من النشطاء في التجمع الوطني المسيحي، متهمين بها كلا من بطريرك القدس السابق والحالي.
لكن، وفق المعلومات التي وردت من الناشط أليف صباغ في حديثه لـ"الرسالة"، فإن السلطة وفرت غطاءً سياسياً لحماية الشخصيات المتورطة في هذه الجرائم.
بل ورفضت السلطة التعامل مع الاتهامات الموجهة للبطريركية المعين من الأردن، كونها الوصية على المقدسات الدينية.
المختص في شؤون القدس المحامي خالد زبارقة أكد وجود دور لشخصيات متنفذة في السلطة وجهات عربية في عملية تسريب العقارات وتسهيل تسريبها للجمعيات الاستيطانية.
وقال زبارقة لـ"الرسالة نت" إن السلطة لم تتخذ أي إجراء قانوني بحق المسربين، رغم الكشف عن عمليات التسريب.
وأوضح أن السلطة التزمت الصمت حيال جريمة يفترض فيها العمل الحثيث لوقفها.
وحمّل زبارقة، السلطة الفلسطينية المسؤولية الكبرى لصمتها عن هذه الجريمة كما أنها لم تصدر حتى اللحظة أي قانون أو عقاب ضد من يفعل ذلك ولم تلاحقهم، بل توفر لهم الحماية.
ويشير القانوني المقدسي، إلى أنّ السنوات الأخيرة شهدت تآكلاً كبيراً في العقارات الفلسطينية في القدس المحتلة؛ خاصة مع دخول عدد من المتنفذين على خط التسريب، لافتاً إلى أنّ هذه الجريمة والخيانة باتت تأخذ طابعاً مختلفاً وتؤثر بشكل أو بآخر على نفسية الشارع الفلسطيني.
موقع السلطة؟!
في السياق، يطرح سؤال مهم عن أجهزة السلطة وأدواتها الفاعلة في المدينة المقدسة، في ظل تذرعها بعدم سيطرتها الأمنية على المدينة.
وتوجد 4 مرجعيات للقدس عند السلطة، الأولى تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية وتتمثل في المؤتمر الوطني الشعبي للقدس الذي أنشئ في العام 2008، ودائرة شؤون القدس التي تأسست العام 2009، ويقتصر دورهما على عقد المؤتمرات وورش العمل والأنشطة الإعلامية الخاصة بالقدس وقضاياها، بحسب فخري أبو دياب الناشط السياسي في بلدة سلوان.
والثالثة مرجعيات تابعة للسلطة الوطنية الفلسطينية، وهي محافظة القدس التي أنشئت مع قدوم السلطة الوطنية الفلسطينية، التي من المفترض أن تكون مهامها الحفاظ على الأمن والأخلاق والنظام وتحقيق الأمن، بالإضافة الى وزارة شؤون القدس.
أما الرابعة، فتتمثل في مكتب الرئاسة ومسؤول ديوان القدس هناك، في ظل الحديث عن نزاع صلاحيات كبير بينه وبين محافظ القدس، وتندرج في مرجعيات الرئاسة وديوان الرئاسة مجموعة لجان، مثل اللجنة الوطنية العليا للقدس، ووحدة شؤون القدس في ديوان الرئاسة (سابقاً)، وهي جميعها عناوين فارغة بلا مضمون.
بعيد أزمة كورونا في مدينة القدس، برز الحديث حول دور هذه المرجعيات، التي تجاوزتها المدينة واضطرت عبر مؤسسات المجتمع المدني، لتشكيل مجلس تنسيقي أعلى لمواجهة الأزمة في تعبير واضح عن فشل أداء هذه المرجعيات.
وبحسب تصريح سابق للشيخ كمال الخطيب نائب رئيس الحركة الإسلامية لـ"الرسالة نت" فإن السلطة هي المسؤولة بعد الاحتلال عما يحدث في القدس، طالما أنها تجمد أدواتها الممكنة لحماية المدينة المقدسة.