قائد الطوفان قائد الطوفان

#دبابيس

أمية جحا
أمية جحا

رسامة الكاريكاتير/ أمية جحا

قبيل غروب الشمس، وهروباً من البيوت، التي لم تفلح المراوح المعلقة في أسقفها، في هزيمة حر الصيف اللهيب، يدعمها انقطاع للكهرباء ست ساعات أو أكثر يومياً، آثرت الخروج إلى شاطئ البحر، وعادة ما أفضل الابتعاد قدر المستطاع عن ازدحام المصطافين، فوجدت ضالتي في مكان مرتفع، ليس فيه إلا عدة طاولات.

كان الهواء عليلاً، وأمواج البحر تضرب خد الصخر، فيتناثر رذاذ الموج، ويصافح وجهي المتعطش حتى لأدق درجات الإحساس بالبرودة.

بعد أقل من نصف ساعة، جلست ثلاث فتيات على الطاولة المجاورة لي، والبعيدة عني قرابة المترين.

كان من الطبيعي أن يحدث ذلك، ولكن اللا طبيعي أنهن كأنهن جلسن معي على نفس الطاولة، بسبب علو أصواتهن!!

الأولى كانت تتحسر على طفولتها التي فقدتها باكراً، إذ تزوجت بابن عمها، وعمرها لم يتجاوز الأربعة عشر ربيعاً! وأخذت تصف حالة الفقر المدقع التي تعيشها، حتى أن زوجها العاطل عن العمل لا يستطيع شراء ملابس المدرسة لبنتهما في الصف الثالث الأساسي! بل إنه طلب منها الاقتراض من أهلها، أو تبقى ابنتهما بنفس المريول المدرسي، الذي لم يتغير منذ عامين!! وبنفس الحقيبة المهترئة، التي رافقتها منذ الصف الأول!!

أما الثانية، فهي طالبة فشلت في التوجيهي للعام التالي! وتقول باكية: لولا قصف بيت أسرتي في الحرب الأخيرة على غزة، واستشهاد أخي وابنته، لدرست جيداً، ونجحت مثل زميلاتي!!

أما الثالثة، فهي خريجة من قسم التعليم الأساسي، منذ عشرة أعوام! تدعو الله أن تتزوج، ولا تريد أن يضيع شبابها بين جدران بيت أهلها، بعدما ملًت انتظار الوظيفة، كما هو حال آلاف الخريجين!!

لم تطلب الفتيات الثلاث أي مشروب، كل واحدة كان معها قارورة ماء صغيرة، بل حتّى أنهن جادلن صاحب الاستراحة، وارتضى بنصف السعر، مقابل المكوث لساعتين فقط في المكان!

كان موج البحر مع نهاية كل قصة، يضرب الصخر بقوة، ثم ينسحب متراجعاً بعيداً، وكأنه يشاركني الشعور بالألم، واليأس من تغيير حال قطاع غزة، الذي ظلّ يعاني منذ خمسة عشر عاماً من حصار العدو والصديق، وكذا الانقسام البغيض الذي قسم ظهورنا، وطمس أملنا بدحر الاحتلال، فضلاً عن التضييق في العيش وأربعة حروب، فتكت بالبشر والشجر والحجر! فكان طبيعياً أن تتكاثر الهموم والمآسي عليه، فتنتشر البطالة، والعنوسة، والشعور بالفشل واليأس من كل شيء! حتّى أنا الهاربة من الحر، عساني أتنسم بعضاً من هواء عليل، زادتني الحكايا على الطاولة بنصف أجر.. علة وألماً وحرارةً!!

البث المباشر