خيري منصور
ما صرح به أبو مازن وهو أن كرامته تمنعه من البقاء على رأس سلطة لا وجود لها على الأرض يعتبر بكل المقاييس ملزماً له ولمن يعقبه في حال تنحيه، انسجاماً مع ما قاله من الناحيتين الأخلاقية والتاريخية، ولعله يرد بشكل غير مباشر على ما قاله نتنياهو حول مفهوم الشريك الفلسطيني المؤهل للتفاوض وإنجاز عملية السلام.
إن تهديد أبو مازن بحلّ السلطة إذا استمر الاستيطان، يعيد إلى قائمة الخيارات المتداولة ذلك الخيار المحذوف وهو باختصار خيار الشعب في مقاومة الاحتلال، وهذا بحدّ ذاته خطاب سياسي مزعج للدولة الصهيونية لأنها كانت قد استبعدته وراهنت على حذفه نهائياً.
قال أبو مازن أيضاً إنه لا يستطيع الخروج أو الدخول إلى رام الله عاصمة السلطة إلا بإذن من سلطات الاحتلال، وقد رأى بعض المراقبين بهذا القول اعترافاً مؤجلاً، إن لم يكن متأخراً عن موعده، فقد مرّ زمن سخر فيه الفلسطينيون من بطاقات ما يسمى VIP وقالوا إن المقصود بها ليس شخصيات مهمة جداً، فحرف الباء يقصد به الفلسطينيون، ولأن الحكومة الصهيونية لا تعترف بأهمية هؤلاء فإن هذه البطاقات بلا مفعول وممنوعة من الصرف السياسي ميدانياً.
إن ما تعبر عنه السلطة الفلسطينية الآن هو بمنزلة إعلان عن الضجر السياسي من وعود أمريكية عرقوبية، فقد فاض بهم الكيل كما يقال، وإن كان السيل هذه المرة من الدمع والدم وليس من الماء وقد تجاوز الزبى كلها.
إن التلويح بالخيار الثالث المحذوف الذي حلت مكانه خيارات دبلوماسية ودولية منها الاحتكام إلى مجلس الأمن معناه الوحيد هو أن الفلسطينيين لم يبددوا حتى الآن كل احتياطياتهم، وأن هناك سفناً لم تحرق بعد على الشاطئ، ولأن الشاطئ في غزة وليس في الضفة الغربية فإن احتياطياً آخر قد يجد طريقه إلى الخيار الذي يعاد التلويح به مجدداً بعد أن احتفلت تل أبيب بوداعه.
لقد علّق كاتب يهودي ذات مفاوضات عقيمة قائلاً إن الدولة الصهيونية ليست في عجلة من أمرها، فهي تعيش وتمارس الحياة بكل تفاصيلها، أما الطرف الآخر فهو واقف في العراء خلف النوافذ وتحت المطر، لهذا فهو في عجلة من أمره، ما يضطره إلى المزيد من التنازلات والتأقلم مع كل حكومة جديدة قد تكون أكثر راديكالية في صهيونيتها من سابقاتها.
إن بقاء أية سلطة في نطاق تجريدي وبلا مفاعيل، ومرتهنة لإرادة الاحتلال أمر عبثي، وهذا ما أوحى به أبو مازن في تصريحاته الأخيرة، والأهم في هذه التصريحات أن عبارته المتعلقة بالكرامة الشخصية قد تكون أشبه بتحذير لأي فلسطيني آخر يقبل بما رفضه أو هدد أبو مازن برفضه.
ما من مفاوضات من طرف واحد فقط، اللهم إلا تلك التي حولتها الحكومة الصهيونية إلى تصفيق تنجزه يد واحدة.
وما من مفاوضات هي رقصة تانغو على إيقاع الجرافات وجنازير الدبابات وعويل الأطفال.
إن المراوحة التي طال أمدها بين المفاوضات وتعليقها هي أشبه بما سمي ذات يوم في أدبيات السياسة العربية اللاحرب واللاسلم، رغم أن مثل هذه المراوحة التي تعطل الحراك الوطني الفلسطيني يقدم المزيد من الوقت هدية مجانية للاحتلال.
والأرجح أن المشهد الفلسطيني مقبل على مغادرة حالة الاستنقاع، لأن للصبر حدوداً كما يقال، ولأن سمكة القرش الصهيونية يسيل المزيد من لعابها السّام كلما شمت المزيد من الدم.. وبالتالي المزيد من التنازلات المجانية.
صحيفة الخليج الإماراتية