قائد الطوفان قائد الطوفان

مقال: هل يمتلك عباس قرار «حل السلطة»؟!

عريب الرنتاوي   

أسبوع واحد فقط، يفصل بين تصريحين للرئيس الفلسطيني محمود عباس، يذهب كل واحد منهما في اتجاه معاكس للآخر. فهو ألمح في تصريحه الأول إلى "قبوله المشروط" بدولة ذات حدود مؤقتة، وهو هدد في تصريحه الثاني بحل السلطة الفلسطينية، بعد أن "اكتشف" بأنها "سلطة لا سلطة لها"، وأن كرامته الشخصية لا تسمح له الاستمرار في رئاستها، ولا حتى القبول ببقائها.

كلا التصريحين قوبل بموجة من التكذيب والتوضيح والتصحيح من قبل أركان السلطة وقادتها، وهو أمر طبيعي ومفهوم، فلا أحد يريد للرئيس أن يظهر بمظهر "المُفرّط" بواحد من الثوابت الفلسطينية، كما أوحى التصريح الأول، ولا أحد، خصوصاً من "المستفيدين من بقاء السلطة" يريد للرئيس أن "يفرط" بهذا "المكسب" أو "المنجز العظيم"، الذي قيل في وصفه ما لم يقله هيجل في الدولة البيسماركية.

على أية، فإن الانتقال "من النقيض إلى النقيض"، وفي زمن قصير جداً، يعكس حالة الارتباك وفقدان الاتجاه والبوصلة، ويعكس حجم المأزق الذي يعيشه هذا التيار المتنفذ في قيادة المنظمة والسلطة وفتح، بعد أن قدم كل ما يمكن تقديمه أو يزيد، على مذبح "المفاوضات حياة"، من دون أن يحصد في المقابل سوى الخيبة والإنكار والإذلال. لقد اعترف الرئيس شخصياً بذلك، ووضع المسألة في قالب "كرامته الشخصية"، وإن كنّا نتمنى لو أنه تناول المسألة من منظور وطني أوسع وأشمل، فمستقبل الأوطان أهم من "كرامات" الأفراد، أياً كانوا، ومهما احتلوا من مواقع.

وهو - أي الرئيس - أضاف أيضاً، وفي اعتراف نادر، بأن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطيني، هو من النوع "الديلوكس" "ذي الخمس نجوم" و"غير المكلف"، من دون أن يكلف نفسه عناء السؤال عن الجهة المسؤولة عن خفض كلفة الاحتلال، وتحويله إلى مشروع مريح ومربح للغاية، من دون أن يتناول مسؤوليته الشخصية، من موقعه أولاً، وبسبب النهج الذي ارتبط باسمه شخصياً ثانياً، عن مآلات الكفاح الوطني الفلسطيني والمصائر التي انتهت إليها فتح والسلطة والمنظمة والشعب والكيان والوحدة الوطنية، إلى غير ما هنالك من مظاهر ضعف وتفكك، جعلت الاحتلال "غير مكلف" على الإطلاق، وحوّلت الفلسطينيين من مصدر تهديد إلى مصدر إزعاج للاحتلال والاستيطان، وفقاً لأسوأ السيناريوهات وأكثرها تطرفاً؟ على أية حال، نحن لا نأخذ على محمل الجد، تهديدات الرئيس بحل السلطة، بل ولا نأخذ على محمل الجد تلويحاته بالاستقالة، فقد سئمنا اللعب بأوراق يبدو أنها لن تستخدم قط، حتى لا نقول إنها حرقت لفرط التلويح بها، وأظن أن أحداً غيرنا لم يعد يأخذ الأمر بجدية كاملة، فهذه التصريحات تمر مرور الكرام على مسامع كل من له صلة بالمسألة الفلسطينية، وأنصح الرئيس من موقع المخلص، بأن يكف عن إطلاقها وإثارتها.

وأذهب أبعد من ذلك إلى القول، بأن السلطة لن تُحل اليوم أو غداً، حتى وإن رغب الرئيس بذلك، بل وأصر على موقفه، فهو - أي الرئيس - لا يملك قرار حل السلطة، والمستفيدون من بقائها كثر ومتنفذون و"مدعومون" بقوة من "إسرائيل" والولايات المتحدة والمجتمع الدولي والاعتدال العربي. في أقصى الحالات، سيُطلب إلى الرئيس أن يتنحى، أو أن يفرض عليه التنحي لـ"عدم الأهلية"، لكن السلطة ستبقى، وستواصل دورها في "خفض" كلفة الاحتلال، بل وجعله احتلالاً مريحاً ومربحاً.

لن تُحل السلطة، ولن يكون بمقدور الرئيس حلها، طالما أن "هوامير" كبار يتعيشون عليها، وطالما أن جيوشاً وطوابير من الموظفين تنتظر نهاية كل الشهر، وطالما أن نصف سكان الضفة أو أزيد قليلاً يعتاشون على رواتبها وميزانياتها ونفقاتها.

لن تُحل السلطة، ولن يكون بمقدور الرئيس عباس حلها، طالما أنها تمثل "مصلحة إسرائيلية عليا"، بشهادة "ويكيليكس" وإشادات نتنياهو برموزها وأجهزتها، وثنائه على مشروع بناء مؤسسات الدولة تحت الاحتلال المنسجم مع السلام الاقتصادي، وفقاً لنتنياهو، وليس وفقاً لتحليلاتنا فقط.

لن تُحل السلطة، ولن يكون بمقدور الرئيس عباس حلها، طالما أن العرب، كل العرب، وليس المعتدلون منهم فحسب، أجمعوا على أن السلام هو خيارهم الاستراتيجي الوحيد الواحد الأوحد، وطالما أن المفاوضات والمزيد منها، حتى وإن كانت عبثية، هي طريقهم ذو الاتجاه الواحد، وطالما أنهم يخرجون من فرصة ضائعة للرهان على فرصة ضائعة أخرى.

قد تكون السلطة الفلسطينية نشأت بقرار وطني فلسطيني، في لحظة إقليمية وسياق دولي معروفين، وكجزء أو مقدمة لمشروع الدولة وتقرير المصير. وقد تكون السلطة استمرت كخطوة على طريق "ترجمة" البرنامج الوطني الفلسطيني طيلة "الحقبة العرفاتية" في النضال الوطني الفلسطيني. ولكن منذ أن تحوّلت السلطة إلى "صندوق تقاعد" وأحالها "التنسيق الأمني" إلى "مصلحة إسرائيلية عليا"، فإن قرار حلّها لم يعد بيدها، ولا بيد رئيسها الغاضب والمحبط.

نحن أميل لتصديق التصريح الأول للرئيس عباس، ونميل للاعتقاد بأنه والسلطة ذاهبان للقبول بـ"الدولة ذات الحدود المؤقتة"، وأن البحث جارْ عن "الإطار" الذي سيكون بمثابة "الغطاء" و"السُلّم" الذي سيمكّن السلطة والرئاسة من الهبوط عن الشجرة، فإن توفر هذا الإطار الضبابي المقنع، كانت "دولة الحدود المؤقتة" في "الحل المتفق عليه"، وإن تعذر بناء هذا التوافق، أصبحت "دولة الحدود المؤقتة" هي "الحل المتواطئ عليه". أي بمعنى آخر، سيكون قيام هذه الدولة بمثابة الثمرة المرة للزواج غير الشرعي، بين سلام نتنياهو الاقتصادي وسلام فيّاض المؤسساتي، أي أنها ستكون النتيجة النهائية للحل الذي يجري فرضه على الأرض، ومن الجانبين، وبتنسيق منقطع النظير، أمنياً في المقام الأول، وسياسياً في التحليل الأخير.

صحيفة الدستور الأردنية

البث المباشر