قائد الطوفان قائد الطوفان

مقال: حُرّاس الجبال في بُرقة!

د. أسامة الأشقر
د. أسامة الأشقر

د. أسامة الأشقر

إلى الشرق من برقة تجد جبل "بايزيد" وتجد عليه قبّة كان يتعبّد في محلّها رجلٌ صوفي لا نعلم حاله كان على طريقة أبي يزيد البسطامي، ومن هنا جاءت تسمية الجبل بـ"بايزيد" المحرفة عن "أبا يزيد" حيث كانوا ينادونه للدعاء لهم " يا أبا يزيد"، وفي القبة حوض بئر على نبع قديم كان يستقي منه.

وهناك مزار آخر قديم يدعى القبيبات، ومزار ثالث ذو محراب يحمل اسماً فخماً يحاكي حال برقة اليوم "رجال الظهرة" فيه قبور صالحين مندرِسة كانت الناس تحيي ذكراهم، وتعرّف المكان على سنّة أمويّة قديمة في يوم عرفة في التاسع من ذي الحجة من كل عام، فتجري فيها مسابقات الخيل العاديات القادمة من قرى الجبال النابلسية الشامخة، وتلتهب الحماسة حين تقدح المُوريات.

وقريب منها تلال جبلية ذات حجارة لامعة برّاقة تنتثر بين تربتها المتفتّتة وحصواتها المتكسّرة مَنَحت صِفتَها لاسم المكان "بُرقة" جاء أهلها قديماً للتبرّك بمحلة هذا الرجل العابد، حيث وجدوا قريباً منه عيوناً تفيض بالماء العذب: نبع عين البلد وعين الحوض وعين كمرة وعين الخسيف... وكان أكثر أهلها المتوطّنين قرب القبة من الحجازيين واليمانيين الشاميين الذين افتتح أجدادهم هذه الأرض قديماً في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، أو من عائلات أولئك المقاتلين الجبليين والمرابطين الذين أذاقوا الصليبيين من غاراتهم وأرهبوهم دهراً طويلاً.

وأكثر أهلها حنابلة كمعظم جبال نابلس، وكان منهم شيخ رواق الحنابلة في أزهر مصر الشيخ يوسف البرقاوي، ومن آخر علمائهم الحنابلة الشيخ الدكتور عمر الأشقر رحمه الله.

ومع أن أكثر أهلها من الفلاحين الذين تربّوا في ظلال الزيتون والجوزيات واللوزيات والتفاحيات فإن ديارهم الخضراء كانت تتوسط الطريق بين المدن الثلاثة نابلس وجنين وطولكرم، وبالقرب منها كانت تمر سكة حديد الحجاز، ولأنها في هذا الموقع المشرف فإن عيون المستوطنين الباحثين عن أيّ موضع يضعون فيها أقدامها السارقة قد اختارتها لبناء مستوطنة حومش عام 1980، تلك المستوطنة التي اضطر شارون لإخلائها عام 2005 كما أخلى قطاع غزة خوفاً على هؤلاء المتشددين المستوطنين من أيادي أولئك البرقاويين وجيرانهم، ولكن هذه البقعة المخلاة ظلت مركز تدريب وبؤرة عسكرية تؤرّق كل حرّ.

ومنذ عام 2013 حيث قررت المحكمة على غير عادتها إعادة هذه الأراضي إلى أصحابها بحساب المصلحة الأمنية الراجحة لهم، فإن هذه البقعة ظلّت هدفاً لكل مستوطن مجنون لاسيما من أولئك القاطنين قريباً منها في مستوطنة شافي شمرون القبيحة، ومستوطنات أخرى تفزع لها.

ولأن وراء هذه العصابات تنظيمات مدعومة من الجيش المحتل فإن هذه القرى يشتدّ عليها غول الاستيطان وشراسة وحوشه الآبقة، ولذلك استنفر فلسطينيوا الجبال النابلسية المقدسيّة أنفسهم لمنازلة هؤلاء الأوغاد، واستعادوا ذكر أجدادهم في ثورة 1936 يوم هبّوا لنصرة الثائر السوريّ محمد الأشمر الذي نفَرَ إليهم مع رجالات سوريا في جيش فوزي القاوقجي حين اشتدّت المعارك في مثلث نابلس العظيم، وأوقعوا بالإنجليز خسائر مذكورة.

هؤلاء المستوطنون هم نكد الدنيا وعذابها، ومنهم يتحدّر الشرّ العظيم، وما زالوا يحلمون بالسيطرة على قمم التلال، تحميهم آلة عسكرية متواطئة سبق لها أن قسّمت برقة بعد اتفاقية أوسلو الكريهة إلى (أ) (ب) (ج) فمناطق (أ) التي تدير السلطة الفلسطينية إدارياً وبلدياً وأمنيّاً لها نحو 27% من هذه القرية، ومناطق (ب) التي تحتمل فيها السلطة الفلسطينية العبء البلدي والنظام العام هي نحو 29% من برقة، وأكثر من 50% من مساحة القرية هي مناطق (ج) المفتوحة والزراعية التي يسيطر عليها الاحتلال تماماً .

وليس هذا فحسب فقد التهم الطريق الالتفافي 60 الرابط بين مستوطنات شمال الضفة نحو 7 كلم من أراضي القرية طويلاً، وأخذ من جانبيها مساحات ارتدادية دفاعية تبلغ 75 م من الكتفين.

وهذه المواجهات في برقة والقرى التي تجاورها اليوم تجدد في نفوس هذه الجبال ارتعاشة الدم الذي روّى هذه التلال، وحفر فيها مشاعر ناريّة تستفزّ الحميّة، وتستدعي نداء الثورة وحرّاسها... !

البث المباشر