كل يوم يمكنك أن تذهب مساءً إلى الأغوار؛ لتراقب التجمعات البدوية وهي تمارس حياتها الطبيعية بين رعي وعجن وخبْز، ثم في نهار اليوم التالي يمكنك أن تذهب إلى المكان ذاته؛ فترى ردم المنازل والبركسات وخزنات المياه المسطحة والملقاة على الأرض، هي ذاتها التي كانت تضج أمس بالحياة، لأن جرافة الاحتلال مرت من هنا؛ فسوّت كل التجمعات بالأرض.
تأخذ الأغوار ربع مساحة الضفة الغربية، ومصير 27 قرية فلسطينيّة يُناقش كل يوم تحت عجلات جرافات الاحتلال، فيعيد البدوي بناءه، وهكذا حتى أصبح سيناريو يومياً يعيشه السكان هناك منذ احتلال الضفة عام 1967.
في الجوار، وإلى جانب التجمعات البدوية، توجد 31 مستوطنة (إسرائيليّة) بنيت تدريجياً على أراضي المنطقة التي نجح الاحتلال في سلبها، وتقدر بـ 12 ألف دونم من أراضي الأغوار.
وهكذا كل يوم هدم وبناء.. تعب وشقاء.. يصر الاحتلال على المحو التام، لكن يخرج من بين الحطام مزارعون ورعاة أصروا أن يظلوا وأن لا يبرحوا أرضهم ما استطاعوا.
لم تتغير حياة التجمعات البدوية في الأغوار، التي يزيد عددها عن أربعين تجمعاً، أشهرها الخان الأحمر وحمصة، وهناك تجمعات أخرى تعاني كل يوم مثل خربة ابزيق، وخربة عاطوف، وخربة أم الجمال والمالك، وكردلة.
وكل يوم تستعد (إسرائيل) بجرافاتها على مفارق خربة أو أخرى لتحولها إلى ركام، متجاهلة كل اتفاقيات حقوق الإنسان واتفاقية جنيف الرابعة التي تجبر الاحتلال على حماية السكان.
حجة إجراء تدريبات للجيش، هي التي يستخدمها الاحتلال منذ الأزل ليهدم مساكن بدو الأغوار، لكن الحقيقة أن الأغوار بحد ذاتها هدف استراتيجي رئيس، وحلم استيطاني كبير بالنسبة للاحتلال.
وليد عساف المختص بمحاربة الاستيطان والتهويد قال في مقابلة مع "الرسالة" إن (إسرائيل) أغلقت كل الطرق العسكرية المؤدية إلى الأغوار قبل عامين؛ لتبدأ رحلة الهدم، بعد عزل الأغوار عن الأراضي الفلسطينية، وقد تعاملت مع السكان وكأنهم محاصرون يحتاجون إلى تصريح للخروج أو الدخول إلى المنطقة، كمن هو تحت حكم عسكري.
ظهر مصطلح "جيوب فلسطينية" وهو نية مبيتة لدى الاحتلال كما يقول عساف لتحويل الوجود الفلسطيني إلى أقلية داخل مجتمع الأغلبية اليهودية. الواقع يمثل مشكلة تنغص على الاحتلال لأن 38000 فلسطيني يسكنون الآن في الأغوار، وهم خمسة أضعاف عدد المستوطنين، وتسعى (إسرائيل) للتغلب ديمغرافياً في منطقة الأغوار كما تريد أن تتغلب في القدس والضفة.
تمارس "إسرائيل" جريمة الهدم، لتفرض واقعا جديدا، لكن يحارب البدو ذلك المخطط، ويعطي عساف مثال الخان الأحمر الذي صمد لأعوام الذي يعاد بناؤه كلما هدمه الاحتلال، والآن حمصة تحاول أن تسير على الخطى ذاتها.
وتشكل الأغوار حدود الفلسطينيين الشرقية، وتقدر بربع أراضي الضفة الغربية، لكن (إسرائيل) تسيطر فعلياً على 88% من مساحتها. فمنذ احتلال المنطقة عام 1967 وحتى العام 2019، أقامت أكثر من 33 مستوطنة غالبيتها زراعية و18 بؤرة استيطانية، مهجرة بذلك أكثر من خمسين ألف مواطن، وفق بيانات هيئة الجدار والاستيطان الفلسطينية.
حياة الأقليات البدوية في الأغوار هي نصف حياة، بمقومات بسيطة جداً لا تتوفر فيها سوى الأساسيات، لأن الاحتلال لا يعطي الفرصة للبناء، ولا للتوسع، إنها حياة رباط وإصرار على رفض النزوح ومقاومته.