دأبت قوى الاستعمار على مدار التاريخ لاستخدام استراتيجية "صناعة الأعيان" لتسهيل حكم السكان المحليين؛ تقتضي هذه الاستراتيجية تقريب شخص ما السكان المحليين وذلك بمنحه بعض المزايا والنفوذ؛ الأمر الذي يؤدي بالسكان المحليين إلى خطب ود هذا الشخص لتسهيل مصالهم الحياتية واليومية؛ شيئا فشيئا يصبح هذا الشخص هو الباب الوحيد لمصالح الناس والممثل الوحيد للسكان أمام هذا الاستعمار، لا تكتفي سلطات الاستعمار بدعم هذا الشخص باحتكار تمثيله للشعب؛ بل تحارب كل المحاولات التي تهدف للالتفاف على هذا الشخص.
بطبيعة ديناميكية وتطور الأدوات والأساليب السياسية؛ فإنه جرى تطوير الألية السابقة على يد الاستعمار البريطاني للأراضي العربية؛ فقد لاحظت بريطانيا أن هناك تيارا يسري بين شعوب الدول العربية يطالب بالوحدة العربية تحت مظلة جامعة، وقد صاغ حينها بعض القوميين العرب ميثاقا عربيا يؤكد على ضرورة تحقيق الوحدة العربية ومقاومة الاستعمار، الأمر الذي لم يرق لبريطانيا فصرحت حينها أنها لا تمانع من إنشاء مظلة تجمع الأنظمة العربية وتقطع الطريق أمام الأحلام العربية بتحقيق الوحدة العربية الحقيقة وتحتوي تحركات القوميين العرب، وتحتكر هذه المظلة التمثيل العربي الرسمي أمام بريطانيا والعالم أجمع.
نحن كفلسطينيين لسنا بدعا من الأمم والشعوب؛ فبمجرد بروز عمليات للفدائيين الفلسطينيين مطلع ستينيات القرن الماضي؛ خارج الأطر الفلسطينية الرسمية وتحديدا من طلائع حركة فتح، لم تكن تحظى هذه العمليات بدعم رسمي عربي؛ فطلبت جامعة الدول العربية من الراحل أحمد الشقيري تشكيل كيان يمثل الفلسطينيين يحظى بالدعم الرسمي العربي ويقطع الطريق أمام التحركات الأخرى التي لا تسيطر عليها جامعة الدول العربية، فالقرار العربي بإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية ممثلا وحيدا للفلسطينيين لم يكن بريئا البتة.
جاءت الرياح بما لا تشتهيه السفن العربية؛ فهزيمة العرب عام 1967م وأفول نجم التيارات القومية، وبروز حركة فتح بعمليتها الفدائية؛ مكنّ حركة فتح من الضغط باتجاه إجراء انتخابات للمنظمة في العام 1968م، هذه الانتخابات التي أصعدت حركة فتح لقيادة المنظمة حتى يومنا هذا.
تغييرات عديدة أجرتها حركة فتح على ميثاق المنظمة نتيجة لتبنيها الخيار السلمي لحل القضية الفلسطينية ودخولها في متاهات سياسية لا نهاية لها، هذه التغيرات أفقدت المنظمة زخمها الشعبي في ظل مقاطعة حركات وازنة لهذه المنظمة وبروز حركات فلسطينية ذات شعبية كبيرة استطاعت أن تفرض نفسها عبر شرعية المقاومة وعبر شرعية الانتخابات.
عديدة هي المطالبات بإجراء انتخابات للمجلس الوطني ليكون بالفعل مجلسا يمثل الشعب الفلسطيني في أماكن تواجده؛ إلا أن هذه المطالبات لن تجد آذان صاغية لدى قادة حركة فتح التي تسيطر على المنظمة لاعتبارات عديدة أهما؛ خوف حركة فتح من عقاب الشعب لهم بعد سنوات طويلة من اختطاف المنظمة والذهاب بالحالة الفلسطينية نحو التيه؛ بالإضافة إلى يقين قادة حركة فتح أن "إسرائيل" لن تسمح بعودة ميثاق المنظمة لسيرته الأولى؛ فإسرائيل ترى البديل عن المنظمة سلطة فلسطينية ضعيفة سهلة السيطرة والابتزاز ومرتبطة بها.
احتكار التمثيل الفلسطيني في منظمة مختطفة وضعيفة وبلا تمثيل حقيقي للفلسطينيين؛ يخدم "إسرائيل" من جانبين؛ أولاهما: قطع أي أمل للفلسطينيين بالتوحد تحت أي مظلة ولا نعني هنا الوحدة بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ولكن الوحدة بين مكونات الشعب الفلسطيني جميعا في الداخل والمخيمات والشتات، وعلى الجانب الأخر، تستفيد "إسرائيل" من عدم تمثيل المنظمة لكل الفلسطينيين في محاربتها للمقاومة الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة؛ فإسرائيل تحاول بكل السبل إظهار المقاومة الفلسطينية بمظهر الحزب الخارج عن التمثيل الفلسطيني، فهي تدعي أمام العالم أنها لا تقاتل الفلسطينيين ولكنها تقاتل "حركات مسلحة" تفتقد إلى التمثيل الرسمي.
هذه الحالة المأساوية التي وصلنا لها كفلسطينيين والمتمثلة في تقاطع أهداف المحتل مع أهداف قادة المنظمة في عدم اجراء انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني؛ يجب أن تنتهي، لكن السؤال الأبرز كيف ستنتهي هذه الحالة؟!
الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج مطالب بقول كلمته عبر دعوة قيادة المنظمة لإصدار قرار اجراء انتخابات للمجلس الوطني وتحديد تاريخ لهذا القرار بأن يكون يوما الانتخابات يوما جامعا للشعب الفلسطيني كيوم الأرض أو ذكرى النكبة الفلسطينية؛ فإن أصرت قيادة المنظمة على المضي قدما في تفردها، فإن الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج لا يخلو من كفاءات سياسية وقانونية قادرة أن تعلن أن هذه منظمة مختطفة وفاقدة للشرعية وتدعو لأوسع اجتماع لفلسطيني الداخل والخارج لتشكيل جبهة لإنقاذ فلسطين تعمل على ترتيب الحالة الفلسطينية والخروج من هذا المأزق.
أخيرا: عودنا شعبنا الفلسطيني أنه لا يستسلم أبدا، وأنه قادر على الخروج من الصعاب، فعلها دوما وسيفعلها مجددا.