قائد الطوفان قائد الطوفان

المُناخ الفلسطيني بين الأمثال الشعبية وحكمة الطبيعة

زراعات بيئية متداخلة في موسمها
زراعات بيئية متداخلة في موسمها

الرسالة نت

جورج كرزم

تميزت فلسطين وبلاد الشام إجمالًا، في السنوات الأخيرة، بتذبذب كبير في أحوالها الجوية، من حيث كثافة الأمطار وكمياتها لفترات زمنية قصيرة، كما حدث في مواسم الشتاء الثلاث الأخيرة، أو من حيث الموجات الحرارية الطويلة صيفًا، وتسجيل أرقام قياسية جديدة في درجات الحرارة ومستوى الجفاف، كما حالنا في العقدين الأخيرين.

اللافت أن بعضاً يتسرع بإسقاط الأحوال الجوية المتقلبة وغير المستقرة على التغير المناخي؛ سواء لجهة توزيع الأمطار أم كمياتها أم انحباسها، أم لجهة طول مواسم الجفاف ودرجات الحرارة المرتفعة.

وهنا لا بد من التنويه إلى أن الفيضانات المائية التي أغرقت بعض المناطق الفلسطينية وأحدثت أضراراً مدمرة خطيرة في كانون ثاني الماضي، مثل مخيم جباليا في قطاع غزة، و كفر عقب شمالي القدس، سببها الأساسي ليس كثافة الأمطار بحد ذاتها، بل هشاشة البنى التحتية وكثافة وعشوائية المباني والكتل الإسمنتية وجدار الفصل العنصري (في كفر عقب تحديداً)، وبالتالي انعدام المساحات المفتوحة، وما يترتب على ذلك من انسداد إمكانيات الانسياب الطبيعي للمياه وتغلغلها إلى باطن الأرض، أو جريانها باتجاه الأودية والأراضي المنخفضة والبحر.  

بل إن بعضًا يتَسَرَّع أيضاً بإسقاط الوضع المطري الشحيح الذي ساد في بعض السنوات الأخيرة على الاحترار العالمي.  ولم يكتفِ هؤلاء بهذا الإسقاط الميكانيكي غير المدروس للحالة المطرية، بل سحبه (أي الإسقاط) أيضًا على ظاهرة الصقيع المعروفة في المشرق العربي منذ آلاف السنين، والتي تحدث تحديدًا بين أوائل وأواسط كانون ثاني من كل عام.

  فمع مجيء أواخر كانون أول وأوائل كانون ثاني من كل عام، يكرر العديد من الناس على مسامعنا ذات الأسطوانة حول موجة الصقيع التي تضرب منطقتنا سنويًا في ذات الفترة تقريباً؛ بقولهم إن هذه الموجة غير طبيعية ولا مثيل لها وهي الأولى من نوعها في شدتها؛ بل يعزوها بعض آخر إلى ظاهرة التغير المناخي التي تجتاح الكرة الأرضية!  

الحقيقة أن موجات البرد القارس والصقيع، بل وانحباس المطر في بعض المواسم، تُعد ظواهر مناخية مألوفة وطبيعية في منطقتنا، منذ آلاف السنين، ولم يطرأ عليها لغاية الآن، أي تغير جوهري نوعي غير طبيعي.

  بل، لو أجرينا مسحًا مناخيًا لمنطقتنا، منذ أن بدأت عملية توثيق حالة الطقس، سنجد بأنه قبل عشرات السنين، كانت الطبيعة أحياناً، تقسو أكثر من المواسم المطرية التي شهدناها في السنوات الأخيرة. وما يؤكد ذلك الأمثال الشعبية العربية التي تُعد بمثابة راصد جوي شعبي، وهي حصيلة التراث الشعبي وتراكم التجارب والمعارف والخبرات الغنية لأجدادنا، عبر مئات السنين، وبخاصة تلك الأمثال المتصلة بالمواسم الزراعية والأعياد في بلاد الشام.

  ففيما يتصل بالصقيع الذي ضرب مختلف المناطق الفلسطينية في أواسط كانون ثاني الأخير، يقول أحد هذه الأمثال:  "بين المولود والمعمود بتوقف المي عمود". 

أي أنه في الفترة الممتدة بين عيد الميلاد المجيد (في 7 كانون ثاني من كل عام حسب التقويم المسيحي العربي الشرقي) وحتى عيد الغطاس (في 19 كانون ثاني حسب التقويم المسيحي الشرقي) تجمد المياه في مكانها؛ فتقف جامدة كما هي!  أي أن تَكَوُّن الصقيع يكون، عادة، في الفترة الممتدة بين أوائل وأواسط كانون ثاني.  وهذا بالضبط ما حدث في كانون ثاني الماضي. 

في الواقع، يُعد البرد القارس والصقيع في كانون طبيعياً وضروريًا للأشجار المثمرة؛ لأن درجات الحرارة المرتفعة في كانون تضر الأشجار المثمرة ضررًا كبيرًا؛ إذ تتبرعم وتزهر مبكراً قبل أوانها.

 ومن هنا المثل القائل: "يا لوز يا مجنون بتزهر في كانون"، أي أن أشجار اللوز هي أول من يزهر بين الأشجار المثمرة، فتسبق في إزهارها سائر الأشجار... وهذا، على أي حال، يذكرنا ببدء تجدد الحياة في الأشجار.

 ويا للأسف، قلة المعرفة ببنية النظام المناخي تاريخيًا في بلاد الشام، جعلت بعض يعتقد بأن إزهار اللوزيات مبكرًا خلال الكانونين، إنما هو ظاهرة شاذة سببها التغير المناخي! 

التاريخ المناخي غير البعيد في فلسطين وسائر بلاد الشام، يؤكد أن كانون يغلب عليه البرد القارس وأحوال الطقس العاصفة (ليس بالضرورة أمطار غزيرة)؛ ومن هنا جاء مثلنا القائل "في كانون الأصم فوت ع بيتك وانطم"، أو "ما بين ميلادة والغطاس لا تسافر يا ابن الناس"، أي في الفترة الممتدة بين أوائل وأواسط كانون ثاني، يتوقع غالبًا أن تضرب منطقتنا العواصف الرعدية والمطرية والرياح العاتية والبرد القارس والصقيع؛ لذا يُنصح بتقليل الحركة أو تأجيل السفر غير الضروري.

وبالرغم من موجات الجفاف وانحباس الأمطار التي شهدتها منطقتنا، إجمالاً، في العديد من سنوات ما قبل موسم شتاء 2020؛ فلا يمكننا إسقاط هذه الظاهرة أوتوماتيكيًا على الاحترار العالمي، والجزم القطعي بأن سبب هذه الظاهرة هو التغير المناخي، بدليل أن فصل الشتاء الحالي، كما الفصلين اللذين سبقاه، وبمقارنتهم بالعديد من المواسم المطرية قبل عام 2020- هذه الفصول الثلاثة الأخيرة ضربت أرقامًا قياسية في كميات الأمطار التي هطلت بغزارة. 

بل أكثر من ذلك؛ من المعروف، وفقًا للتراث المناخي في بلاد الشام (فلسطين، لبنان، سوريا والأردن)، أن شهر كانون ثاني قد يكون ماطرًا جدًا أو جافًا جدًا.

 وهذا ما يميز فترة "المربعانية" التي تمتد أربعين يومًا (من 22 كانون أول وحتى 31 كانون ثاني)، ويشتد فيها البرد القارس، وتسقط الثلوج في بعض المناطق، وليس بالضرورة أن تكون الأمطار غزيرة؛ بل وقد تكون، أحيانًا، شحيحة جداً.

 وهذا ما تؤكده أمثالنا الشعبية، من قبيل: "المربعانية يا شمس تحرق يا مطر يغرق"!  أو: "المربعانية يا بتربع يا بتقبع"! 

وبعض يخطئ باعتقاده أن الثلوج (كتلك التي تساقطت في مختلف الأنحاء الفلسطينية في أواخر كانون ثاني الماضي) تضر الأراضي الزراعية، العكس تمامًا هو الصحيح، فالحقيقة أن الثلج الخفيف جيد للتربة لأنه يعقمها ويزيد محتوى رطوبتها، ويثري موسم الزيتون.

 وبهذا الخصوص، يقول مثلنا الشعبي "سنة الثلجة بيجي الزيتون حامل" بمعنى غزارة في الثمار وسيولة عالية في الزيت.

وإذا ما شحَّ المطر في شباط، فقد يعوضه بعض المطر في آذار؛ وهذا ما يعرف بتراثنا المناخي بالمستقرضات.  والمستقرضات عبارة عن سبعة أيام، ثلاثة من شباط وأربعة من آذار، وسُميت بهذا الاسم لأن شهر شباط الذي يعد أقصر أشهر السنة، "يقترض" بعض الأيام من شهر آذار كي يطيل عمره؛ فيهطل مزيدًا من المطر.

وهذا ما يجسده المثل الشعبي الذي "يخاطب" فيه شهر شباط، شهر آذار الذي يليه: "آذار يا بن عمي أربعة منك وثلاثة مني ويا ويلك يا عجوز السوء مني"!  أو المثل التالي الذي يتضمن ذات المعنى "إذا تأخر المطر في شباط عليك بالمستقرضات"! وقد لاحظنا هذه الظاهرة بقوة تحديدًا، في أواخر شباط وأوائل آذار 2021.

وبالرغم مما ورد، لا بد أن نراقب بعض التغيرات في درجات الحرارة وفي توزيع الكميات المطرية بمنطقتنا، بحسب الأبحاث المناخية الأخيرة.  لكن هذا لا يعني أن نستنتج استنتاجات مطلقة وقطعية ونهائية حول الأوضاع المناخية في منطقتنا.

 

حكمة الطبيعة

كما نلاحظ، لم يطرأ تغير نوعي أو جذري خطير على الأنماط المناخية في منطقتنا، وذلك بالرغم من شح الأمطار والجفاف في بضع سنوات مضت. بل، ما تغير في الواقع هو الناس وأنماط حياتهم واستهلاكهم عمومًا.

  ففي السنوات الأخيرة، تتكرر كل عام تقريبًا ظاهرة تلف بعض أصناف المزروعات بسبب الصقيع، بما في ذلك المحاصيل في الدفيئات البلاستيكية.  لكن، لو دققنا في طبيعة المحاصيل التي يتكرر تلفها بسبب الصقيع، نجدها أساسًا من مجموعة المحاصيل الصيفية التي تزرع في الشتاء، أي تزرع بشكل اصطناعي في غير أوانها.

  فمحاصيل الصيف أصبحت تزرع شتاءً في الدفيئات؛ لماذا إذن، يُصاب العديد منا بالدهشة حين تتلف محاصيل موسم الصيف التي تزرع في فصل الشتاء؟!  لماذا يصاب الخيار والبندورة المزروعان اصطناعيًا في الشتاء وباستخدام أسمدة كيميائية سامة؛ بينما لا يتأثر القرنبيط (الزهرة) والملفوف والثوم من الصقيع، أو على الأقل تكون إصابتهم خفيفة؟  لقد تجسدت حكمة الطبيعة في توفير غطاء للقرنبيط وطبقات ورقية للملفوف وقشور للثوم يقيهم من الصقيع. وكذلك طبيعة تكوين الحبوب المقاومة للبرد القارس والصقيع، كالعدس والقمح والشعير وغيرها.

وعلى المنوال نفسه، يمكننا سحب ما ورد سابقًا على طبيعة الأطعمة التي صرنا نستهلكها على مدار السنة.  فبدلاً من استهلاكنا للخضار والحبوب والفاكهة الموسمية التي تتميز بطبيعة نمو منسجمة مع العوامل المناخية، أصبحنا نتناول في فصل الشتاء النباتات التي يفترض أن تزرع وتنضج في فصل الصيف.

 وهذا السلوك الاستهلاكي مخالف لقوانين الطبيعة؛ إذ من المعروف أن بعض الأغذية تزود أجسامنا بالطاقة، وهذه تحديدًا هي التي يجب أن نكثر من تناولها في فصل الشتاء، كالمحاصيل الشتوية المتمثلة في الحبوب مثل العدس والقمح والشوفان، والخضار الشتوية كالسبانخ والبازلاء والفول والحمص والملفوف والقرنبيط والخس والفجل، إضافة إلى الحبوب والفاكهة المجففة، والحمضيات كالمندلينا والبرتقال و"الجريب فروت" والبوملي والليمون.

 أما بعض الأطعمة الأخرى فتأخذ الطاقة من أجسامنا وهي التي يجب ألا نتناولها في غير موسمها، وتحديداً في الشتاء. 

ومن هذه الأطعمة الخضار الصيفية التي لا يجوز تناولها في فصل الشتاء، وبخاصة تلك التي تُزرع في الدفيئات البلاستيكية، كالكوسا والباذنجان والخيار والبندورة.

المصدر:مجلة أفاق البيئة والتنمية 

البث المباشر