شغل التطبيع حيز التفكير والنقاش في الفترة الأخيرة، إلا أن فعل التطبيع ذاته قديمٌ يمارسُ منذ عقود من الزمن سواء بشكل علني أم سري، مباشر أم غير مباشر، فالعلاقات العربية مع كيان الاحتلال الصهيوني بدأت بشكل مباشر وعلني عندما وقع الرئيس المصري أنور السادات عام 1979 "معاهدة السلام" بين مصر وكيان الاحتلال، بعد زيارته للكيان، وبعد مفاوضات كثيفة نتج عنها توقيع معاهدة السلام التي تتلخص بما جاء بالمادة الثالثة من المعاهدة، التي نصت على:" يتفق الطرفان على أن العلاقات الطبيعية التي ستقام بينهما ستتضمن الإعتراف الكامل والعلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية وإنهاء المقاطعة الإقتصادية".
الخطوة المباشرة الثانية للعلاقات العربية مع كيان الاحتلال الصهيوني، جاءت من منظمة التحرير الفلسطينية عند توقيع اتفاقية "أوسلو" عام 1993، والتي نصت أن يعترف كيان الإحتلال بمنظمة التحرير كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، مقابل إعتراف المنظمة بالكيان على 78% من الأراضي الفلسطينية. وبعد ذلك توالت الإتفاقيات والمعاهدات، كان من أبرزها معاهدة السلام الأردنية-"الإسرائيلية"، أو ما يعرف بإتفاق "وادي عربة"، التي تضمنت إعتراف كلا الطرفين بسيادة الآخر، وإقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين الطرفين.
ويظهر من خلال المعاهدات أو الاتفاقيات سابقة الذكر، أن عملية تطبيع العلاقات كانت مع كيانات بينها وبين الاحتلال الإسرائيلي حالة من الصراع، الأمر الذي يفسر وصفها بمعاهدات سلام، لها أبعاد سياسية أُلحق بها جوانب اقتصادية، وما يميز هذه الموجة الأولى من التطبيع هو اتفاق العرب على ثوابت القضية الفلسطينية، وأن أي علاقات مع كيان الإحتلال الصهيوني يجب أن يتبع حلولاً تحفظ حقوق الشعب الفلسطيني.
ثم ما لبثت أن فَتُرَتْ عملية التطبيع –العلني-، حتى عام 2020م، وفيه التحقت 4 دول بمسار التطبيع، وصل بعضها إلى حد التحالف، والجدير بالذكر أن هذه الدول لم يكن بينها وبين كيان الاحتلال الصهيوني أي صراع مباشر، الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات حول مشروع التطبيع الجديد.
هذا بالنسبة للتطبيع العربي مع كيان الإحتلال الصهيوني، أما بالنسبة للتطبيع التركي مع الكيان، فهو قائم منذ الاعتراف التركي بكيان الاحتلال الصهيوني عام 1949م، حيث تسير العلاقات بخطى متوازنة وبخط بياني متصاعد في جميع المجالات السياسية، الاقتصادية، العسكرية والأمنية، ويجسد ذلك الرغبة الحقيقية لكلا الطرفين في ديمومة واستمرارية هذه العلاقة المبنية على المصالح المشتركة.
ومثَّل وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002 بداية لمرحلة جديدة في السياسة الخارجية التركية، تهدف الى إيجاد التوازن في علاقات تركيا الخارجية بين توجهاتها الأوروبية التي ميزت السياسة الخارجية التركية منذ عشرينات القرن الماضي، وسياستها الجديدة الرامية إلى أداء دور محوري وقيادي في منطقة الشرق الأوسط، من خلال العودة بتركيا إلى عمقها الإستراتيجي (العربي والإسلامي) والسعي إلى تصفير مشاكلها مع دو ل الجوار.
وكان لهذه السياسة الجديدة أثر كبير على العلاقات التركية مع كيان الاحتلال، وتباين هذا التأثير من ميدان لآخر، فهو أكثر وضوحا في الميدان السياسي، لكنه أقل في الميدان الاقتصادي، حيث يعد الاقتصاد أهم أبعاد العلاقة، وهذا البعد لم يتأثر بالتوترات السياسية التي شهدتها العلاقات خلال السنوات الماضية بل ازداد توسعاً وتطوراً.
وبالنظر لتركيا ومكانتها الجيوسياسية التي تفرض عليها الاهتمام بمنطقة الشرق الأوسط باعتبارها المنطقة الأهم في مجالها الحيوي، لحفظ أمنها وتحقيق مصالحها، خصوصاً وأنها تتطلع لامتلاك التأثير في المنطقة استناداً للإرث التاريخي، كما أنها تسعى دائماً لأن تكون نقطة الربط في تصدير الطاقة بين الشرق والغرب، فموقع تركيا الجغرافي يعطيها مكانة خاصة ويجعلها دولة محورية بين آسيا وأوروبا وهي قريبة إلى إفريقيا عن طريق البحر.
واستناداً لتلك المعطيات تنظر تركيا لكيان الاحتلال على أنه جسر ما بين أنقرة والعالم الغربي وتحديداً الولايات المتحدة، ومن ثم فأي توتر في العلاقات التركية مع الكيان سينعكس سلباً على علاقات تركيا بالعالم الغربي وخاصة واشنطن، كما أن تركيا أرادت أن تعطي دفعة لاقتصادها من خلال إعادة الزخم للعلاقات الاقتصادية والتجارية، بأن تكون ممراً لتصدير غاز شرق المتوسط لأوروبا.
فتركيا تضع قضية الطاقة على رأس الأولويات، وهي بحاجة إلى تنسيق مع كيان الاحتلال فيما يخص مد خطوط الأنابيب إلى أوروبا، خاصة أن هذه المشروعات مدعومة من الولايات المتحدة في طريق إيجاد بدائل للغاز الروسي.
كفلسطينيين، ننظر لأي علاقة مع كيان الاحتلال الصهيوني -مهما كانت أبعادها- بالاستنكار، نظراً لما اقترفه ذاك الكيان من جرائم ضد الحقوق الفلسطينية، ولا يمكننا تجاوز جراحاتنا لنستسيغ أي علاقة مهما كانت.
ومن زاوية أخرى، نرى كفلسطينيين مشروع التطبيع على أنه تعبير عن ضعف في قدرة صمود الاحتلال في الصراع مع الفلسطينيين بسبب عوامل تاريخية وجغرافية واستراتيجية، فمشروع التطبيع يشبه سياسة بناء جدار الفصل العنصري حول الضفة الغربية والقدس إيذاناً بفشل عملية إخضاع الضفة الفلسطينية بالقوة أو الاحتواء بمشاريع التفاوض، لذلك كان لصعود مشروع المقاومة وإنجازاته، الأثر الجوهري للتفكير بالتحول الاستراتيجي "الصهيوني" لمرحلة تطبيع علاقاته مع جواره الذي ينظر له كعدو، بدلاً من التوسع والتمدد الجغرافي.
بالتالي فإن نسج العلاقات مع الاحتلال يزيد من قدرة صمود الاحتلال، ونشر روايته حول الصراع، إلا أن المطلوب منا فلسطينياً الآن هو التفكير بصورة جدية ومعمقة لاقناع الشعوب العربية والإسلامية حول مخاطر العلاقة مع كيان الاحتلال الصهيوني، وأن لا نعتمد على دبلوماسيتنا الرسمية، والاستناد على ما نمتلكه من قدرات شعبية.
وأن ننظر "ببراغماتية" لفرص الاستفادة من بعض الدول التي لها علاقة مع الاحتلال ولا تحمل في داخلها العداوة لمشروع التحرر الفلسطيني، إننا بحاجة لتطوير دبلوماسية شعبية قوية للتواصل مع الشعوب العربية والإسلامية لإبقاء القضية الفلسطينية حيةً في نفوسهم، فمشروع التطبيع يستهدف بصورة أساسية تلك الشعوب، فقناعة الاحتلال أن الأنظمة متغيرة مهما كانت ملتصقة بكرسي الحكم.