في يونيو من عام 1936 وُلد ذلك الصبيُّ في قرية الجورة الفلسطينية، لعائلة تعيش على البحر وتقتاتُ من أسماكِه، فكان أحمد ياسين طفلا ًعفياً، مات والدُه وهو ابنُ خمسٍ، فتجرّعَ مرارة اليُتم قبل مرارةِ احتلالِ الوطن.
كان عمره اثني عشر عاماً حينما داهمت عصابات الاحتلال قريته وهجّرت عائلته، وعرف مرارة التهجير والخذلان في حرب عربية تُرك الفلسطيني فيها وحيداً دون سلاح، فتربى وهو على يقينٍ كاملٍ بأن على الفلسطيني ألا يربط مصيرَه بمصيرِ أي جيش ثم يركن، فسعى لتأسيسِ مقاومةٍ فلسطينيةٍ خالصةٍ، خطوةً بخطوة حتى لا يربط مصيرُ الوطن سوى بأبنائه.
درس الصبي في الجورة، حتى قررت عائلتُه الهجرةَ وهو ابن اثني عشر، وعرف معنى الفقر والعَوز الذي يخلّفه التآمرُ على الأرض وسرقتِها، وعاش يراقبُ الجيوش العربية وهي تدخل وتخرج بكفّي حُنين، بينما تَعيثُ العصاباتُ الصهيونيةُ في الأرضِ فساداً واحتلالاً.
وبعد الهجرة، ترك الصبي الصغير المدرسة عاماً واحداً، حتى يعيل أسرةً مكونةً من سبعة أفراد، فعمل في أحد المطاعم، وحينما استقر به الحال عاد للدراسة مجدداً، لأنه كما كلِّ فلسطيني يعلم تمام العلمِ أن طوقَ نجاتِه لا يكمن إلا في العلم، فأكمل تعليمه وتخرج من الثانوية العامة، وما بينهما انتقلت حياتُه نقلةً نوعيةً بسبب حادث قلبها رأساً على عقب.
وهو ابن السادسة عشر، تعرض لحادث أدى إلى كسرٍ في عموده الفقري، فبدأت الصحة تنسل من الجسد الشاب، حتى انتهت به مقعداً على كرسي متحرك، ثقيل اليدين، ثقيل اللسان، بعين ترى والأخرى لا ترى سوى الضباب، ومن فوق ذلك المقعد بدأ مسيرةً غيرت مسار القضية الفلسطينية.
عمل الشاب المشلول معلماً، رغم صعوبات الحصول على الفرصة، فبدأ مسيرتَه التعليمية، إلى جانب دخوله في عالم المقاومة والسياسة تدريجياً، وتجرّع هزيمة تلو الأخرى وعلى رأسها هزيمة 67، النكبة الثانية التي قُدر لأحمد ياسين أن يعيشها مرة أخرى، وكانت كل تلك المآسي التي عاشها الشاب المقاوم هي بداية شرارة انتماء لحركة الإخوان المسلمين التي أعلنت عن تأسيسها في مصر على يد الإمام حسن البنا عام 1928 متطابقةً أفكارُها مع أفكارِ الشاب المتدين.
بدأ العمل بالدعوة للإصلاح في مساجد قطاع غزة، وحينما كبرتِ الدعوةُ واتسعت وأخافتِ الاحتلال فعملت على اعتقاله للمرة الأولى عام 1982، وبعد اعتقاله وجهت إليه تهمة تشكيل تنظيم عسكري وحيازة أسلحة وصدر بحقه حكم بالسجن 13 عاما، لكنها عادت وأطلقت سراحه عام 1985 في إطار عملية لتبادل الأسرى مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين "القيادة العامة".
وبدأ العمل الجهادي تحت مسميات كثيرة ففي عام 1987 كان أبناء الحركة يعملون بمسمى "المجاهدون الفلسطينيون".
ثم انطلقت حركة حماس، بعد أن استوفت نصابها من الداعمين الملتزمين المتفقين على مبدأ واحد، وكان ذلك عام 1987، وظل أحمد ياسين الشيخ المقعد زعيماً يقودها من كرسي متحرك حتى اعتقلته سلطات الاحتلال يوم 18 مايو/أيار 1989 مع المئات من أعضاء حركة حماس وحكمت عليه بالسجن مدى الحياة.
عام 1991 أُعلن عن "كتائب القسام" رسمياً مؤسسوها القادة صلاح شحادة، وعماد عقل، ومحمود المبحوح في قطاع غزة، والمهندس يحيى عياش في الضفة الغربية، وفي شمال الضفة زاهر جبارين، وعدنان مرعي، وعلي عاصي.
ثم قُدر للشيخ أن يتذوق طعم الحرية من جديد عام 1997 حينما عقدت الأردن صفقة تبادل للإفراج عنه مقابل عميلين للموساد حاولا ارتكاب جريمة اغتيال لرئيس المكتب السياسي في حينه خالد مشعل، فكتب الله لتلك العملية الفاشلة التي تدل على مدى الحماقة "الإسرائيلية"، أن تكون سببا للإفراج عن الشيخ.
ولم تنسى " إسرائيل" كعادتها تلك الصفعة التي تلقتها يوم الافراج عن الياسين، رغم أن السلطة ألزمته وقتها بالإقامة الجبرية في محاولة للحد من عمله المقاوم والتنظيمي فحاولت "إسرائيل" اغتياله، محاولة نجى منها بأعجوبة، وكان برفقته الشيخ إسماعيل هنية، لتكتب للاحتلال فشلا ذريعا آخر في عام 2003.
لكن الاحتلال الذي كان يظن أنه بموت الياسين يمكن أن تنته مقاومة عز الدين القسام حاول مرة أخرى، وكانت تلك المحاولة التي قسمت ظهر أهل غزة يوم الثاني والعشرين من مارس عام 2004 حينما اغتالته طائرة أباتشي إسرائيلية وهو عائد من صلاة الفجر فاستشهد وسبعة من رفاقه، حقق هو الشهادة، وحقق الاحتلال فشلا ذريعا آخر.
وهكذا رحل الصبي المهجر، الذي أسس من على كرسي متحرك مقاومة أصبحت رقما صعبا هز الاحتلال، الذي بات يخاف من كتائب القسام التي كانت مجرد حلم لشاب مقعد، ثم أصبحت واقعا قويا باق ويتمدد.