رغم خصوصية الواقع الفلسطيني إلا أنه يتقاطع في الكثير من القضايا السياسية والمجتمعية مع محيطه العربي والإقليمي، خاصة في الجوانب المتعلقة بالنوع الاجتماعي وطريقة التعاطي مع الفئات الهشة والضعيفة، ومن ضمنها النساء.
وقد خلفت الحروب والصراعات والنزوح والهجرة في الدول المحيطة على مدار العقد الماضي أزمات إنسانية متفاقمة، وأوضاعاً سياسية معقدة، خلقت بيئة خصبة للفساد في معظم المناحي، خاصة مع تزايد مستويات الفقر والبطالة واللذين تربطهما علاقة طردية بالفساد فكلما زاد الفساد زاد الفقر وقلت الفرص وزادت نسب البطالة.
ويمكن القول إن النساء من أكثر الفئات تأثراً بنتائج الفساد، خاصة في مجال تقديم الخدمات، وذلك نتيجة لدورهن في متابعة الوضع الصحي والتعليمي لأبنائهن، وكلما زاد عدد الأسر التي تترأسها نساء تظهر الإشكالية بوضوح، خاصة أن الحروب والصراعات خلفت الكثير من النساء الأرامل في فلسطين والمحيط الإقليمي، وبالتالي باتت النساء يتلقين الخدمات المباشرة لهن ولأسرهن.
ربع قرن من الحروب في العراق أنتجت ثلاثة ملايين أرملة وفقاً لسجلات وزارة شؤون المرأة، إحصائيات مماثلة تشير الى أنه في سوريا أصبح العدد بعد سنوات الحرب الأخيرة حوالي مليون أرملة.
أكثرية الخارجين من الجحيم السوري إلى دول الجوار، وفقاً لمعطيات الأمم المتحدة، هي أسر تقودها نساء فقدن معيل الأسرة الأساسي، وتتراوح أعمارهن بين 14 و50 عاماً، بحسب الشبكة السورية لحقوق الانسان.
في حين لا توجد أرقام واضحة حول عدد الأرامل في اليمن التي تشهد حروباً وصراعات داخلية منذ سنوات.
حالات موثقة أممياً
في سوريا مثلاً، أجرى صندوق الأمم المتحدة للسكان تقييما للعنف القائم على نوع الجنس في المنطقة في العام 2018 وخلص إلى أن المساعدات الإنسانية يجري تبادلها مقابل الجنس في مختلف المحافظات في سوريا.
وقال التقرير إن “النساء والفتيات اللواتي ليس لهن من يحميهن مثل الأرامل، والنازحات داخلياً، يعتبرن معرضات بشكل خاص للاستغلال الجنسي.
وأكد التقرير أن أفراداً من المجالس المحلية في مناطق مثل درعا والقنيطرة قد عرضوا على النساء المساعدات مقابل ممارسة الجنس، وأكد التقرير أنه كان يتم حجب المساعدات التي تم تسليمها ثم يستخدم هؤلاء المسؤولين النساء لممارسة الجنس".
كما أكد التقرير أن نتيجة المسح الذي أجرته فرق الأمم المتحدة أن 40 بالمئة من النساء قلن إنهن تعرضن لعنف جنسي أثناء الحصول على الخدمات، بما في ذلك المساعدات الإنسانية.
أما في فلسطين فتشكل الأرامل ما نسبته 6% من المجتمع وهي نسبة ليست بسيطة، كما تعاني النساء بسبب كونهن إناثاً فيتعرضن للتحرشات الجنسية مقابل الحصول على خدمات هي حق لهن، ولكن بفعل الفساد يصبحن فريسة للفساد والفاسدين.
وتتعرض النساء لأشكال مختلفة من الفساد في مجالات تلقي الخدمة المركزية من صحة وشؤون اجتماعية وتعليم، ما ينعكس مباشرة على الخدمات المقدمة للمتلقيات ويؤثر في النوعية والجودة وعدالة الحصول على الخدمات لأغلبية النساء متلقيات الخدمة.
وقد شكلت فئة الأرامل إحدى أكثر الفئات التي تتعرض لهذا النوع من الفساد نتيجة كونها فئة هشة وغالباً ما تتحمل عبء ومسؤولية الأسرة.
مستويات الخدمة
وبسبب الفساد أيضا تدفع النساء ثمن تدني مستويات الخدمة المقدمة كماً ونوعاً، لاسيما في مجالات تقديم الخدمات العامة، كون النساء يشكلن غالبية النسبة من الفقراء، ويتحملن مسؤولية رعاية الأسرة، وطلب الخدمات من صحة وتعليم ومساعدات اجتماعية.
لم يكن الأمر هينا على النساء الأرامل، خاصة بعد محاولات من أصحاب النفوس الضعيفة استغلالهن وابتزازهن نفسيا وجنسيا للحصول على الحوالات المالية من بعض الجهات، فتبدأ العملية من الفضاء الأزرق "الفيسبوك" لتنتهي بفضيحة على أرض الواقع.
ويدرك جيدا صاحب المؤسسة أو أحد القائمين عليها، الحاجة المادية الملحة للأرامل، فيبدأ بالتودد لهن بمكالمة هاتفية أو رسالة فيسبوكية.
تقلق الأرامل اللواتي يتعرضن للابتزاز اللفظي أو الجنسي، منهن من تلتزم الصمت وتخفي ما تعرضت له وترفض الكفالة، وأخريات يقعن في فخ الابتزاز خشية فقدانهن لمصدر رزق صغارهن بدلاً من التذلل لأحد الأقارب لكن تكون نهايتهن غير محمودة.
أسباب كثيرة أودت ببعض الأرامل إلى الهاوية بسبب عدم توعيتهن في التصدي للابتزاز الذي يتعرضن له، وكذلك خوفهن من اللجوء إلى الطرق القانونية لوضع حد للشخص المبتز والحصول على الكفالات دون تقديم التنازلات.
ابتزاز واقع
ووفق إحصائية رسمية أجراها الجهاز المركزي الفلسطيني للاحصاء لسنة 2020 فإن نسبة الأرامل في الضفة المحتلة وقطاع غزة حوالي 6% من الشعب الفلسطيني، ويشكل قطاع غزة من تلك النسبة 15% نتيجة تكرار الحروب عليه.
وتعد فئة الأرامل شريحة ضعيفة ومهمشة، ولا تقتصر حاجتها على الدعم المادي فقط بل بحاجة إلى الدعم النفسي والتوعوي في كافة الأصعدة لإعالة أسرهن.
مسؤولة اتحاد لجان العمل النسائي الفلسطيني أريج الأشقر، أكدّت أن شريحة الأرامل بحكم الحروب المتتالية على غزة، أصبحت تمثل حالة مرعبة في المجتمع، إذ تقدر نسبتهن بـ15% من مجمل النساء في القطاع، بحسب إحصائية 2021م.
وقالت الأشقر لـ"الرسالة نت" إن المرأة الأرملة تتعرض لابتزاز في إطار التحويلات المالية وكفالات الأيتام، نتيجة عدم درايتها الصحيحة لطبيعة المؤسسات المعتمدة وذات العلاقة.
وأوضحت أن بعض المؤسسات والجمعيات قد لا تكون حاصلة على اعتماد الجهات الرسمية، وبعض الجهات قد تتقمص دور المؤسسة والجمعية، وهذا كله ممكن في ظل بيئة خصبة لدى النساء الأرامل.
وحثت الأشقر النساء للتواصل مع الوزارات ذات العلاقة، مقترحة في الوقت ذاته على الجهات الرسمية تحديد المؤسسات ذات العلاقة الموثوقة، والمتابعة الحثيثة لكل الجمعيات والمؤسسات التي تعمل في فضاء العمل الخيري وتستهدف النساء الأرامل.
وأوضحت أنه في اطار الاحتكاك المباشر بين الاتحاد والأرامل، يمكن الحديث عن تسجيل حالات كثيرة تعرضت لهذا الابتزاز.
بدورها، أكدّت مها الراعي، مديرة شبكة وصال التابعة لجمعية الثقافة والفكر الحر، أن "الأرامل" من أكثر الفئات الهشة التي تتعرض لابتزاز جنسي، عبر الفضاء الالكتروني.
وقالت الراعي إنّ هناك إحصاءات تتحدث عن تعرض هذه الفئة لهذا النوع من الابتزاز، عبر أفراد يستغلون أوضاعهن الاجتماعية والاقتصادية، إلى جانب افتقارهن للتوعية القانونية.
وأوضحت أن الابتزاز الفردي هو الأخطر، كون المؤسسات بالعادة تخضع لرقابة غير عادية في مجال عملها ومواقع دعمها، ومن السهل الشكوى والتقاضي بحقها، مستشهدة بعمل شبكة وصال على سبيل المثال التي تعمل بسرية وخصوصية عالية مع هذه الفئة.
وفي السياق، أكدت وجود خط ساخن مع الجهات الحكومية ذات العلاقة كالشرطة النسائية للتعامل مع الحالات التي تتعرض لهذا النوع من الابتزاز.
مخرج للأزمة
ويعرف الائتلاف من أجل النزاهة والشفافية "أمان" الفساد المبني على النوع الاجتماعي بأنه "أي إسـاءة اسـتعمال فعليـة أو محاولـة إسـاءة لحالة الضعـف أو فـارق في السـلطة أو ثقـة لأغراض جنسـية، بما في ذلك التهديد أو الاستفادة مالياً أو سياسياً أو اجتماعياً من الاستغلال الجنسي لشخص آخر".
وفي السياق ذاته شخصت زينب الغنيمى، مديرة مركز الأبحاث والاستشارات القانونية للمرأة، المشكلة الرئيسية في ضرورة توفر الوعي القانوني للمرأة في التعامل مع القضايا المالية، خاصة في تعاملها مع الأفراد عبر فضاء التواصل الاجتماعي.
وقالت الغنيمي لـ"الرسالة نت" إنّ الأرملة تمثل بيئة خصبة للتعرض للابتزاز من الأفراد، أما المؤسسات فلم تسجل وصول شكاوي حول قضايا نصب واحتيال.
وذكرت أنّ تحويل الأموال للفئات المستفيدة عبر البنوك أو الصرافين، قد تمثل مخرجاً للمؤسسة والمستفيد معاً من دائرة الشك.
وأوضحت الغنيمي أن تسليم الأموال باليد خاصة دون استلام أوراق رسمية تفيد بقيمة المبلغ التي تستلمه المرأة، يضع المؤسسة أو الجمعية في دائرة الشك.
وأضافت: "لا يجوز ولا يفضل أن تستمر المعاملات المالية مع الأرملة على قاعدة تسليم الأموال باليد، بل يفضل صرفها عبر المصارف المعتمدة وبطرق تؤمن الجانب المالي للمؤسسة".
الحماية الإجتماعية
بدوره، أكدّ الباحث القانوني حازم هنية، لدى الهيئة المستقلة لحقوق الانسان، وجود إشكالية حقيقية مرتبطة بنظام الحماية الاجتماعية، قائلا: "هناك تخفيض في مخصصات الحماية الاجتماعية التي تطال الفئات الضعيفة".
وأوضح هنية لـ"الرسالة نت" أن أوضاع الفئات المهمشة بغزة، تفرض تعقيدات أكثر بالقطاع من المناطق الأخرى في الأراضي الفلسطينية، مشيراً إلى أن برنامج "البدلات النقدية" المخصص لفئات الشؤون الاجتماعية أثر بشكل مباشر على هذه الفئات وخاصة النساء اللواتي فقدن المعيل.
وذكر هنية أن هذا العجز ترافق مع عدم وجود تعويض من الحكومة الفلسطينية، وهذا أيضا اثر بشكل كبير على هذه الفئات.
من ناحيتها، أكدت المديرة العامة لمركز المرأة للإرشاد القانوني والاجتماعي رندة سنيورة، على وجود قصور في التشريعات التي تنصف المرأة الفلسطينية، خاصة تلك المتعلقة بمكافحة الفساد، إلى جانب الفجوات والثغرات المتعلقة بممارسة وتطبيق القوانين الخاصة بإنصاف النساء وتحقيق العدالة لهن في المجتمع الفلسطيني.
وقالت سنيورة إن المرأة لا تزال أفقر الفقيرات في مجتمعنا الفلسطيني، بالرغم من إعالتها ورعايتها للفئة الأكثر ضعفاً والمتمثلة بالأطفال والأشخاص ذوي الإعاقة، منوهة إلى أن المؤتمر يدعو في صلبه إلى زيادة المعرفة بموضوع المؤتمر، ونبذ كافة أشكال التمييز المبني على النوع الاجتماعي والذي يعد شكلاً من أشكال الفساد.
وأضافت سنيورة أن نسبة النساء في مراكز صنع القرار لا تزال محدودة، إذ لا تتجاوز 11% مقارنة بالرجال، مشيرة إلى أن حاجة المرأة للخدمات قد يعرضها للابتزاز الجنسي الذي يعد أحد أنوع الفساد المبني على النوع الاجتماعي.
وأكدت أن وجود قانون لمكافحة الفساد يحمي من الرشوة والابتزاز غير كافٍ؛ لأنه في حال كان الفساد ابتزازاً جنسياً للمرأة فإن هنالك صعوبة بالتعامل مع هذا القانون، مؤكدة على ضرورة وجود تدابير وسياسات وقائية تحمي المجتمع من هذه الظواهر.
وطالبت بضرورة وضع تدابير وقائية لمنع فرص الفساد المبني على النوع الاجتماعي، وفرض التشريعات التي تجرّم كل أشكال الفساد المبني على النوع الاجتماعي وآليات الحماية لضحايا الفساد.
ولفتت إلى وجود قوانين متعلقة بالمرأة ولكنها بحاجة لتطوير وتطبيق وعدم الاكتفاء بوجودها على اللوائح والأنظمة.
وفي ورقة بحثية أصدرتها أمان حول التدابير الوقائية لدرء مخاطر الفساد المبني على النوع الاجتماعي في تقديم الخدمات الاجتماعية، أوصت بضرورة مكافحة الفساد المبني على النوع الاجتماعي، ومن أهمها تطوير وتعديل كافة القوانين المتعلقة بالفساد ودراسة كافة اللوائح والأنظمة المتعلقة بهذه القوانين، في سبيل خدمة النوع الاجتماعي، وزيادة الوعي بثقافة الشكوى المرتبطة بأشكال الفساد المبني على الجنس، كالابتزاز الجنسي والرشوة الجنسية والتحرش الجنسي، إضافة الى إدراج التحرش الجنسي كفعل مناف للأخلاق في مدونة أخلاقيات الوظيفة العامة.
كما أوصت وزارة التنمية الاجتماعية بضرورة أن تطـور الـوزارة قدراتهـا كقائـد ومنسـق للحمايـة الاجتماعية في فلسطين، بما في ذلك دورها في المساعدات التي تقدمها المؤسسات الأهلية والحكومية وشبه الحكومية المتعلقة بالمسؤولية الاجتماعية، مع إخضاعها لمستويات الشفافية والمساءلة وإعلان المعايير الواضحة التي تقدم على أساسها الخدمة الاجتماعية، وإجراء تحليل لجميع البرامج والخدمات والقوانين والسياسات من منظور النوع الاجتماعي قبل إقرارها، وبمشاركة جميع الفئات المعنية بما في ذلك النساء المستفيدات من الخدمات، وتضمين النوع الاجتماعي في محاربة العنف الاجتماعي ومحاربة الفساد يجب أن تكون مهمة جميع من يعمل في وزارة التنمية الاجتماعية.
وأوصت الدراسة بتطوير سياسة الوزارة لدرء مخاطر الفساد المبني على النوع الاجتماعي بما فيه التحرش والابتزاز والإساءة الجنسية.