قائد الطوفان قائد الطوفان

جنين.."عش الدبابير" الذي يوجع الاحتلال في معقله

غزة– مها شهوان

حين يتردد اسم "جنين" يدب الرعب والفزع بين أجهزة الاحتلال الإسرائيلي، فتعلن حالة الاستنفار؛ لأنه من المحتم أن هناك عملية بطولية سينفذها من حملته المدينة في أحشائها وأنجبته ثائراً مغواراً. الزمن يروي قصص مدينة فلسطينية هز أولادها بعنادهم ومقاومتهم محتلاً زائلاً.

جنين ليست مدينة عادية، فهي التي ما زالت تخرج المقاومين، ليقارعوا المحتل في كل مكان. حتى لو كانوا داخل السجون فإنهم يكسرون قيدهم بطريقة تهين الاحتلال أكثر، وما سجن جلبوع عنا ببعيد.

واعتاد سكان المدينة أن يفيقوا على عملية فدائية أو اجتياح إسرائيلي لملاحقة ثوار سطّروا بطولات استفزت المحتل، ومع أن الأخير يعاقبهم بفرض قيود تعيق حياتهم، إلا أنه لا يثنيهم عن مواصلة كفاحهم.

وتعود تسمية قلعة الثوار إلى مدينة "عين جنيم" وتعني بالكنعانية عين الجنائن، التي تحيط بالمدينة الواقعة شمال الضفة المحتلة، وتبعد عن مدينة القدس مسافة تصل إلى 75كم إلى الشمال. تطل على غور الأردن من الناحية الشرقية، ومرج بن عامر من الناحية الشمالية، وتحولت بمخيمها الباسل إلى رمز للبطولة عندما خاض مقاوموها الأبطال ملحمة فدائية خلال معركة الدفاع عن مخيمها عام 2002.

ومن المعروف عن مدينة جنين ومخيمها، أنه في كل ليلة هناك اقتحام لجنود الاحتلال للبحث عن المقاومين، وحينها يصدح صوت المئات من أبنائها بين الأزقة والحارات وهم يرددون "حي على الجهاد".

ولا يزال يستعصي على المحتل أن يكسر شوكة أهالي جنين، فقد استخدم الطائرات والمدرعات لإنهاء حالة المقاومة لكن كل محاولاته باءت بالفشل، وبقي أبناء المخيم يواصلون مسيرة الشهداء التي رسم تفاصيلها محمود طوالبة والشيخ رياض بدير وأبو جندل وكل الشهداء الذين ارتقوا دفاعاً عن الأرض.

ويتسابق أبناء جنين للشهادة كما لو كانوا يذهبون للصلاة، ودوما يفاجِئون المحتل بعمليات نوعية فيدب الرعب في أجهزته الأمنية أكثر من السابق، وتدفعه لإعادة مخططاته، لكن الفشل دوما حليفها.

ولجنين شأن عظيم في النضال الوطني الفلسطيني، فلها خصوصية في المقاومة ترجع لعدة عوامل منها أنها تستند إلى إرث نضالي ممتد وطويل منذ ثلاثينيات القرن المنصرم، فمن حيث الهوية دوماً تحتضن العمل المقاوِم منذ تشكيلات عز الدين القسَّام.

وكانت أثناء الانتفاضتين الأولى والثانية معقلاً لمنفذي العمليات الاستشهادية، وكذلك أثناء اجتياح جنين عام 2002 وما تكبَّده أهلها من خسائر بشرية ومادية رغم ما ألحقوه بالاحتلال من خسائر في المقابل.

يصف الكاتب خالد جمعة مدينة جنين عبر منشور على فيسبوك قائلاً: "إذا قلت "جنين" ثلاث مرات، ولو همساً، ستنبت قريةٌ بين أجساد الشهداء، وسيزيد الأكسجين في هواء البلاد، وربما دبت الحياة في عروق الشجر الناشف، ولكن الأمر الحتمي، أن هذه المدينة، ومنذ خلق الله الأرض، قررت ألا تكون مجرد جغرافيا.. وضعت وشماً على ساعدها [حُرّم الوشم للأشخاص وليس للمدن]، وحملت أحزان المدن في جيوبها، ومضت إلى الوديان، كل حجرٍ ترونه ملوناً في جبال فلسطين، عليه بصمة جنين.. كل طائرٍ يغني في غير موسمه، في صوته جنين.. كل شهيد، ولو كان من أقاصي الأرض، ابحث عن نسبه، ستجد -ولو قبل مليون عام- أن فيه نَسَباً من جنين.

ويتابع جمعة: "سيقولون: يا لها من مبالغة، وسأقول: فيمن سنبالغ إن لم يكن في جنين؟".

خزان المقاومين

لم تغب جنين ومخيمها عن واجهة المقاومة يوماً، ففي السابع من إبريل الجاري، نفذ الشهيد رعد حازم عملية فدائية بعد صلاة التراويح في شارع ديزنغوف بمدينة تل أبيب المحتلة، قتل فيها ثلاثة مستوطنين، وأصاب أكثر من عشرة.

تخبط العدو الإسرائيلي، وأعلنت أجهزته الأمنية حالة الطوارئ، وبعد تنفيذ الشهيد رعد لعمليته النوعية، أفاقت مدينة جنين ومخيمها على "عملية عسكرية" شنها جنود الاحتلال؛ فأغلق حاجز الجلمة شمالاً وشدد قبضته العسكرية في محيطها، فنصب الحواجز المتحركة وأعاق تنقل المواطنين من المدينة وإليها.

بعد أقل من 48 ساعة على عملية "رعد"، ومحاصرة جنين، اتصل ضابط المخابرات بوالد الشهيد وطالبه بتسليم نفسه وأبنائه الآخرين، فرفض وكان الاقتحام.

بعد مشهد ذلك اليوم، عاد الفلسطينيون ولا سيما أهالي جنين بالذاكرة إلى 20 سنة مضت، وتحديداً في الثالث من إبريل 2002، موعد الاجتياح الإسرائيلي الذي استمر 15 يوماً، واستخدم الاحتلال فيه المئات من جنوده وآلياته العسكرية ومدافعه وطائراته الحربية، لاجتثاث المقاومة وتجفيف منابعها.

وحينها قتل الاحتلال نحو 60 فلسطينياً معظمهم من المدنيين، ودمَّر أكثر من 1200 منزل كلياً أو جزئياً، بينما قتلت المقاومة 50 جندياً إسرائيليا وأصابت العشرات، وبقيت المقاومة على قيد الحياة دون أن يخفت وميضها.

برزت جنين ومخيمها الذي يصفه الاحتلال بـ"عش الدبابير" أكثر، وصارت تشكل أحد أهم معاقل المقاومة الفلسطينية، وجاءت عمليات الشهداء ضياء حمارشة ورعد "الحازم" وقبلهم عائلة جرادات التي سبق أن نفذ مقاومون منها عملية مستوطنة حومش شمال نابلس، لتؤكد ذلك.

ومنذ بداية العام، فقدت جنين 10 شهداء وأصيب العشرات، لتسجل بذلك أعلى المدن عدداً من الشهداء والجرحى وأعلاها بعمليات المقاومة وتنفيذ "كتائبها" هجمات ضد نقاط الاحتلال العسكرية من حواجز وأبراج.

ثمة حقيقة قائمة لا يستطع الإسرائيليون أنفسهم إنكارها، وهي أن مخيم جنين استنهض المقاومة الفلسطينية في كل مرة اعتقد فيها الإسرائيليون أنها ضعفت أو انهارت، كما يبرز المخيم دوما بوصفه مخرّجاً لعشرات المقاومين الموحَّدين خلف راية المقاومة الفلسطينية عموماً، دون الانضواء تحت راية فصائلية أو حزبية، كما يحدث في مناطق فلسطينية أخرى.

لا تزال جنين تمثل حالة مقاومة فريدة في الضفة المحتلة، إذ يعتبرها الثوار "خزاناً للمقاومين"، كما أنها عصية على الانكسار والهزيمة، فكل حادثة تزيدها قوة في مواجهة المحتل.

البث المباشر