على أطراف مخيم جنين، انطلقت رصاصة واحدة مختلفة، اخترقت قلب كل فلسطيني، حينما اقتحمت مدرعات الاحتلال المخيم كعادتها منذ أشهر في ملاحقة ما يرعبها.
كانت الرصاصة الغادرة هذه المرة من نصيب شيرين أبو عاقلة، التي كانت تقف في الزاوية مع زميلتها شذا حنايشة وهما تلبسان الزي الرسمي والدروع الواقية التي تبين بوضوح هويتهما الصحفية، ولم يكن هناك تجمهر حتى تتوه الرصاصة أو تخرج مخطئة طريقها، لقد استهدفت الرصاصة شيرين أبو عاقلة، كما وصفت شذا، استهدافاً مقصوداً ومباشراً: "بل إن الاحتلال كان يراقبنا من البداية وانتظر وصولنا إلى زاوية محددة ثم أطلق النار".
شذا إلى جانبها تحاول أن تمد يدها، توقظها، تحاول أن تقول شيئاً وترسل إشارة إلى الكاميرات البعيدة حتى يحاولوا إنقاذ شيرين أو يسابقوا الوقت، ولم يسبقوه!
زميلها علي السمودي كان معها في ذات المشهد، مصاباً برصاصة في الخاصرة وشاهداً على الإرهاب (الإسرائيلي): "لم يطلبوا منا شيئاً، لم يطلبوا منا الوقوف، أطلقوا النار مباشرة عليها وعلي، كنا قد دخلنا نصور عملية الاقتحام، ودون أي مقدمات قتلها بدم بارد جيش متخصص في القتل".
مقتل شيرين الذي ادعى الاحتلال أنه برصاصة فلسطينية جاء مصوراً بالصوت والصورة، ليكشف كذبة واضحة، ففي تلك الدقيقة من الصباح الباكر لم تكن هناك اشتباكات ولا إطلاق نار من أي جهة، حتى لم يكن هناك احتجاجات أو رمي حجارة، لم يكن هناك شيء!
ورغم ذلك أطلق الجنود ثلاث طلقات نارية، الأولى أخطأت علي، والثانية أصابته في كتفه، وصرخت شيرين "علي مصاب" ثم سقطت تحت الشجرة وغابت إلى الأبد!.
ولم يتمكن الصحفيون من إنقاذها لأن إطلاق النار استمر لأكثر من ثلاث دقائق تجاه الصحافيين، ثم تعاونوا لنقلها عبر سيارة خاصة لأن الاحتلال منع سيارات الإسعاف من الوصول إلى المكان.
شُيعت شيرين أبو عاقلة الصحافية الفلسطينية التي وُلدت عام 1971، والمهندسة المعمارية التي تركت الهندسة وتحولت للصحافة حباً، تخرجت من جامعة اليرموك في الأردن، ثم عادت إلى فلسطين لتكون صوتاً لها في "الجزيرة" القناة العربية الأكبر على الساحة الإعلامية عام 1997، .
رحل الاسم والصوت الذي يعرفه العالم، رحلت كما على أي صحافي فلسطيني، فلسطيني فقط أن يرحل برصاصة الاحتلال الذي لا يقهره الصوت والدرع الصحافي والخوذة الواقية، لكن ما يقهره أن يكون الفلسطيني هو من يرتديها، هو من يرتدي كلمة الحق وهو من سينقلها، وهذا ما يخيف الاحتلال فيغتالنا.
الاحتلال لم يتعامل مع شيرين معاملة الصحافيين المحترمة، إنما معاملته المعتادة لأي فلسطيني، فلسطين هي المستهدفة من خلال جسد شيرين، ولأجلها استشهدت وهي تعلم تماماً هذه الحقيقة.
عشرات المرات استُهدفت، واعتُقلت، وضُربت في الشيخ جراح وفي باب العامود، تضامنت وجلست على الدرجات كأي فلسطينية قبل أن تكون صحافية، ولكن الاحتلال الذي يفرض معايير نقل الصورة للعالم كيفما شاء، يربكه وجود الصحافي خاصة عندما يكون فلسطينياً، لأن كل صحافي فلسطيني لا بد أن يكون جندياً، مقاوماً، متحدثاً باسم معاناته الشخصية، ووجعه الموروث أباً عن جد، وهكذا كان كابوساً يؤرق الاحتلال.
الاحتلال يكذب، والخائف دائما كاذب، ويقول بأن شيرين قُتلت برصاصة فلسطينية، في ساعات الفجر والشمس ساطعة وحين تقتحم جنين، وبين وابل الرصاص، كيف لا يمكن أن ترى صحافية مدرعة بلباسها الواقي وخوذتها؟!!
القيادي في حركة حماس إسماعيل رضوان قال: "هذه ليست الجريمة الأولى ضد الصحافيين، ولولا هذا الصمت الدولي على جرائم الاحتلال لما ارتكب الاحتلال هذه الجريمة، على المجتمع الدولي ملاحقة مرتكب الجريمة التي ارتكبها الاحتلال في وضح النار، ضد صحافية معروفة بصوتها وصورتها.
ويضيف رضوان: توقيت الاغتيال هذا يثبت أنه كان مقصوداً، وعلى العالم أن يرى بعينيه أنها جريمة مكتملة الأركان، هذا هو الإرهاب الحقيقي، والعالم يجب أن يعرف ذلك.
حُملت شيرين اليوم على أكتاف المجاهدين، والمقاومين والصحافيين وكأنهم يقولون شكراً يا شيرين، شكراً لأنك كنت صوت فلسطين العالي على مدى خمسة وعشرين عاماً.
وعلى شاشة الجزيرة أُعلن الحداد، بكاها الصحافي تامر المسحال قائلاً: "شيرين كانت نموذجاً ومعلماً لنا جميعاً، ولكل صحافي فلسطيني. لقد فقدتها أسرة الجزيرة والأسرة الصحافية على امتداد العالم العربي، هذا الفقدان ليس عادياً، لإنسانة رائعة عرفناها عن قرب، وعرفنا تغطياتها لأحداث القدس وفضلت أن تموت شهيدة وهي لا زالت على رأس عملها".
آخر رسالة كتبتها شيرين أبو عاقلة وأرسلتها لزملائها في الجزيرة كانت في تمام الساعة السادسة صباحاً قالت فيها: "قوات الاحتلال تقتحم جنين وتحاصر منزلاً في حي الجابريات، وفي الطريق إلى هناك أوافيكم بخبر فور اتضاح الصورة".
لكن شيرين لم تقف أمام الكاميرا كما وعدتهم لتقول جملتها الشهيرة "شيرين أبو عاقلة – رام الله فلسطين" فهي اليوم كانت الخبر.