تشهد الساحة الفلسطينية حراكاً جديداً لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، عبر مبادرات أطلقتها شخصيات وطنية فلسطينية تهدف إلى إنهاء حقبة سوداء من الانقسام استمرت لأكثر من 15 عاماً، فيما تقف أمام هذه المبادرات تحديات كبيرة، لكنها ليست مستحيلة في ظل رؤية الفلسطيني قضيته تتراجع محلياً وإقليمياً ودولياً.
وقد أطلق رئيس الملتقى الوطني الديمقراطي د. ناصر القدوة وشخصيات فلسطينية مبادرة جديدة لتغيير الواقع السياسي الفلسطيني، وتشكيل هيئة انتقالية، وإعادة بناء المؤسسات الفلسطينية، خاصة منظمة التحرير، من خلال مجلس وطني جديد يجري تشكيله عن طريق الانتخابات، وإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، وتشكيل حكومة جديدة بعيداً عن "الاشتراطات الدولية".
وترى المبادرة الجديدة أن النظام السياسي الفلسطيني "يفقد شرعيته" بشكل متسارع؛ بسبب غياب الانتخابات، وتدمير المؤسسات، وتدهور القانون، وتراجع الحالة المعيشية للفلسطينيين وانتهاك كرامتهم.
وبحسب مبادئ المبادرة، يعدّ اجتماع المجلس المركزي الأخير "غير قانوني"، وترى أنه "ألحق الضرر بمنظمة التحرير، وأحبط المبادرة الجزائرية لإنهاء الانقسام وعمّق الانقسام"، فيما تعاني الفصائل الفلسطينية، سواء تلك المنضوية في منظمة التحرير أو خارجها، من "حالة تراجع عامة، ويجب عليها إجراء مراجعة سياسية شاملة لاستعادة عافيتها".
وتنص المبادرة على إقامة "إطار مؤقت انتقالي" من الأطراف التي تقبل هذه المبادئ الحاكمة في الوثيقة، على أن يكون لهذا الإطار "تاريخ بداية ونهاية، وهو ليس بديلاً عن الهيئات الحاكمة".
في المجمل، هذه المبادرة ليست جديدة من حيث المنطلقات والرؤية التي تحملها، لكنها تصطدم بجملة من العوائق القديمة الجديدة التي تجعل من إمكانية تطبيقها احتمالاً ضعيفاً؛ بالنظر إلى الوضع الداخلي الفلسطيني، والبيئة الإقليمية وتدخلات الاحتلال، ناهيك بالوضع الداخلي لحركة "فتح"، ويمكن تلخيص العقبات أمام المبادرة في النقاط الآتية:
- مطلق المبادرة هو ناصر القدوة، العضو السابق في اللجنة المركزية لحركة فتح، والذي تم فصله من الحركة العام الماضي على خلفية تشكيله قائمة مع مروان البرغوثي في الانتخابات التشريعية التي ألغاها الرئيس محمود عباس، وهنا فإن نظرة حركة فتح لن تكون إيجابية تجاه المبادرة؛ كونها صدرت من شخص "انشق" عن الحركة.
- ما زال الوضع الداخلي الفلسطيني غير قادر على تجاوز الأزمة المتعمقة خلال السنوات الماضية، وهذا الأمر يرجع بدرجة أساسية إلى عدم رغبة الرئيس الفلسطيني محمود عباس وفريقه في رام الله في إنهاء الانقسام.
فالحسابات القائمة حالياً تعوّل على إمكانية إحداث تغيير في مواقف "دولة" الاحتلال والموقف الأميركي بما يصب في إعادة مسار المفاوضات المتوقف منذ سنوات طويلة، فيما لا يزال الرئيس عباس عازماً على عدم إنهاء حياته السياسية من دون أن يحقق شيئاً يذكر، أو يعترف بأن المسار الذي دفع الشعب الفلسطيني عبره على مدار عقدين قد فشل، وهذا الأمر باعتقادي هو المشكلة الأبرز على المستوى الفلسطيني الداخلي، والتي ما زالت تحول دون إنهاء الانقسام.
- من يستعرض مواقف الفصائل الفلسطينية، بما فيها حركة "حماس"، يجد أنها تدفع بشكل كبير إلى إنهاء الانقسام، وأن المشكلة تكمن في حسابات الرئيس عباس وفريقه، الذين يرون أن إجراء الانتخابات سيؤدي إلى خسارة حركة "فتح"؛ في ضوء تراجع شعبيتها بشكل كبير لدى الشارع الفلسطيني، والخشية من تحالفات بين حركة "حماس" والجبهة الشعبية والجهاد الإسلامي، تؤدي إلى تغيير التركيبة القيادية للشعب الفلسطيني.
- المبادرة الجديدة تصطدم بعدم الرغبة الإقليمية، خلال الفترة الحالية، في إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، وسط تركيز على حركة التطبيع بين الدول العربية و"دولة" الاحتلال والتعاون الأمني والعسكري لمواجهة ما تطلق عليه "دولة" الاحتلال "الخطر الاستراتيجي الإيراني"؛ ولهذا فإن الرغبة الإقليمية حالياً تقلصت إلى أدنى مستوياتها.
- بالتوازي مع عدم الرغبة الإقليمية، ترى "دولة" الاحتلال أن إنهاء الانقسام الفلسطيني، خلال الفترة الحالية، قد يعرقل جهودها للتطبيع مع الدول العربية والإسلامية، إذ إن موقفاً فلسطينياً موحداً رافضاً للتطبيع سيكون محرجاً للدول العربية المطبعة، كما قد يؤدي إلى إحراج الاحتلال على المستوى الدولي، على اعتبار أنه يسوق توقفه عن المفاوضات مع الفلسطينيين بذريعة وجود انقسام فلسطيني يتعذر بسببه وجود جهة تمثل كل الفلسطينيين في غزة والضفة والخارج، يمكن إجراء المفاوضات معها.
أما عند الحديث عن الفرص التي يمكن أن تدفع باتجاه تطبيق هذه المبادرة وإنجاحها فهي متعددة، وتشمل الرغبة الشعبية الكبيرة، وحالة التدهور الذي تعيشه القضية الفلسطينية والمخاطر المحدقة بمستقبلها، والتراجع الاقتصادي الكبير الذي يعيشه الفلسطينيون، بالإضافة إلى القضايا الوطنية الكبرى التي تشهد تراجعاً وخاصة قضية القدس.
المبادرة لاقت ترحيباً من الفصائل الفلسطينية بما فيها حركة "حماس" التي عدّتها إيجابية ويمكن البناء عليها، وهذا الأمر يعني أن الكرة الآن في ملعب الرئيس عباس للتجاوب معها أو العودة إلى مسار المصالحة وإجراء الانتخابات التي ستفرز قيادة جديدة تستطيع مواجهة التحديات التي تعترض القضية الفلسطينية.
إنهاء الانقسام يحتاج إلى إرادة حقيقية، وخاصة من قبل الرئيس عباس الذي يمكنه إصدار القرارات والمراسيم بإجراء الانتخابات وتحدي الاحتلال الذي قد يمنع إجراءها في مدينة القدس المحتلة.