إن الانخراط في حركة الفعل السياسي والمقاومة الجهادية في آن واحد؛ ليس بالأمر الهين، ولا يستطيع الجمع بينهما إلا أولو العزم من الرجال والنساء، كما هو واقع حال حركات المقاومة الإسلامية بفلسطين المحتلة. وفي مقدمتها حركة حماس.
هذه الحركة التي أخذت على عاتقها؛ مهمة العمل السياسي قصد المشاركة في تدبير ما تتولاه من الشأن العام الفلسطيني؛ مهما كان محدودا كما هو واقع حالها بقطاع غزة. من جهة.
ومهمة العمل الجهادي المسلح ضد الكيان الغاصب من جهة؛ عملا منها بقاعدة: الجمع أولى من الترجيح؛ كلما أمكن بقدر الإمكان.
ولا يخفى على كل من له أدنى دراية بالقضية الفلسطينية، أن معظم قوى الشر العالمي قد تحالفت ضد قوى المقاومة لخنقها ومحاصرتها برا وبحرا وجوا؛ بما يدفعها للتخلي عن الجهاد المسلح ضد الاحتلال بالخصوص، ورفع راية الاستسلام، وإعلان الخضوع التام لما تمليه وتريده عصابة الكيان الاستيطاني؛ كما هو واقع حال الإذلال الذي تعيشه رئاسة السلطة الفلسطينية، وغيرها من رؤساء دول التطبيع اللامشروط كما هو معلوم.
فماذا على حركة حماس أن تفعل وهي بين المطرقة والسندان، فالبحر أمامها والعدو محيط بها، ولا حول لها ولا قوة إلا بالله، ثم بمن بقي لها فيهم بصيص أمل في هذه الدولة أو تلك؛ من” دول الممانعة”؟!! على الرغم من تورط هذه الدول فيما لا مثيل له من المفاسد والمظالم والانتهاكات الجسيمة لحقوق الناس. كما هو حال الشعب السوري مع النظام الدكتاتوري مثلا.
وكل هذا تعلمه حركة حماس عن قرب، ولم تقبل بالتورط في تزكيته بشكل أو بآخر، ومن أجله نقلت قيادتها احتجاجا عليه خارج سوريا، وبقيت صامدة في خندق المواجهة ضد العدو الصهيوني، ما يزيد عن العقد من الزمن مع قلة الناصر، بل مع احتمال انعدامه بالمرة؛ في سياق تسابق معظم دول الجوار نحو التطبيع اللامشروط مع الاحتلال الغاصب، وإعادة العلاقة مع النظام السوري بما في ذلك تركيا -وهي الدولة القوية ذات النفوذ في المنطقة اقتصاديا وعسكريا- بحيث لم يبق لقيادة حماس إلا خيارين؛ لا ثالث لهما:
إما خيار؛ رفع الراية البيضاء وإعلان الهزيمة، وترك القضية الفلسطينية لمصيرها؛ قتلا لأهلها ونهبا لخيراتها وطمسا لحضارتها وتدنيسا لمقدساتها، وتشفيا في أمتها بأسرها، وإمعانا في التوسع الاستيطاني على حسابها، وتلك هي الطامة الكبرى، وذلك هو الأدهى والأمر؛ في ميزان الموازنة والترجيح بين هذا الخيار بكل مفاسده وأضراره على الحركة والقضية والأمة بأجمعها لفائدة العلو الإسرائيلي؛ بكل ما يعنيه في قاموس الحلم التوسعي الصهيوني بمنطقة الشرق الأوسط الكبير!!!
والخيار الثاني؛ ممثلا في واجب قيام الحركة بالبحث عمن يسندها في محنتها التي يشيب لهولها الولدان، ويشد عضدها حتى تبقى صامدة في خط المقاومة المبصرة بقدر الإمكان، وهو ما لم تجد له سبيلا، ولا بديلا إلا بالعودة إلى سوريا دون قيد ولا شرط،
وهنا لا بد من التنبيه على أمر هام جدا، -كثيرا ما يغفل- وهو: أن الحركة ليس بينها وبين أي نظام عربي أو غير عربي؛ أي مفاصلة ولا أي مصادمة، بما في ذلك النظام السوري؛ بل مفاصلتها وعداؤها وجهادها ضد خصم الأمة الوحيد؛ ممثلا في دولة الاحتلال فقط، ومن والاها ودعمها بالمال والسلاح، لا غير.
فالنظام المصري مثلا؛ على الرغم من جرائمه الوحشية في حق الشعب المصري عموما، وفي حق جماعة الإخوان المسلمين خصوصا، -وحركة حماس جزء منها في الأصل-، ومع ذلك لم يثبت عنها أي إعلان لعداوتها له أو التدخل في شؤونه بشكل أو بآخر؛ على الرغم مما تعرضت له هي نفسها من إذايات متعددة من قبله. والسبب في ذلك؛ هو أن موقف الحركة مبدئي من الاصطدام مع أي نظام. كما أنها ليست معنية بحمل هموم الأمة كلها، ولا الاهتمام بأي مشكل غير مشاكل شعبها.
وما قامت به مع النظام السوري هو توقيف علاقتها معه فقط، على إثر اندلاع المواجهات بينه وبين الثوار، وما نتج عن ذلك من انتهاكات جسيمة في حق الشعب السوري، لهذا قررت الخروج لكي لا تتعرض للضغوط أكثر مما تعرضت له بالفعل؛ لتقديم ضريبة الإقامة وحرية العمل بما يعبر عن تأييدها لنظام الأسد ضد الثوار، فأبت. ولكي لا تتورط في هذا الموقف المخزي وغيره مما يتعارض مع موقفها المبدئي الذي أجمعت عليه، ولم تتنازل عنه منذ تأسيسها؛ وما ينبغي لها.
هذا؛ مع العلم أن قيادة الحركة لم تعد آمنة مطمئنة بعدما وصلت المعارك إلى العاصمة دمشق؛ فلم يعد لبقائها هناك أي معنى، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا؛ وقد قضى الله أمرا؛ أن بقي النظام السوري قائما بعدما تفوق على معارضيه في الداخل وخصومه في الخارج؛ بما له من قوة ونفوذ وعلاقات خارجية داعمة (إيران وروسيا).
فكان قرار عودة الحركة اليوم للحياة والحركة في سوريا كقرار خروجها بالأمس؛ قرارا إراديا، رأت فيه مصلحتها، بالدرجة الأولى؛ وقاية للحركة والقضية الفلسطينية من المزيد من المعاناة؛ فأقدمت عليه عملا بقاعدة الموازنة والترجيح؛ ليس بين جلب خير الخيرين، ولا بين تحقيق أهم المصلحتين، ولكن بين ارتكاب أخف الضررين، ودفع أعظم المفسدتين في واقع الأمر لا غير.
وارتكاب أخف الضررين من قبل الحركة هنا؛ هو عودتها للاستقرار في سوريا؛ في وقت لم يبق لها من منفذ للإمداد بالعتاد وغيره إلا عن طريقها، أو المغامرة بالصمود وهي عارية الصدر، مكشوفة الظهر؛ في مواجهة ما ستتعرض له يقينا من قتل وتعذيب وتشريد وتهجير ونكاية صهيونية لا مثيل لها، ولا قبل للحركة ولا للشعب الفلسطيني والأمة بها قاطبة، على نحو أفدح مما حدث مع اندلاع ثورات الربيع العربي، وما نجم على إثرها من كوارث وفضائع في حق كل الشعوب التي تاقت أنفسها للتحرر والانعتاق من ظلم أنظمة العسف والقهر؛ فإذا بها تجد نفسها عرضة لما لا مثيل له من العذابات والآلام والخسائر في الأرواح والأعراض والممتلكات، فضلا عن إهدار كل قيم الحرية والكرامة والعدالة وحقوق الإنسان … إلخ !!!
وبهذا الفعل الارتجالي تكون الحركة قد كررت التجارب الفاشلة التي وقعت فيها منظمة فتح من قبل بالأردن ولبنان وفي الكويت والعراق وأدى فيها الشعب الفلسطيني ما لا حصر له من الخسائر في الدماء والأعراض والممتلكات فضلا عن الهزائم المتكررة…إلخ
وقد استفادت حركة حماس من كل تلك التجارب الفاشلة؛ فقررت أن تبقى قائمة بواجبها الشرعي والوطني ممثلا في مقاومة الاحتلال بقدر الإمكان لا غير. وألا تتدخل في شؤون غيرها من الدول بأي شكل من الأشكال، وفي أي ظرف من الظروف. وكل من كانت له مشكلة مع نظام الحكم في بلده؛ فليتحمل مسؤوليته في مواجهتها وحلها، كما هو حال حركة الإخوان في سوريا مثلا وغيرها؛ بعد دخولها -تحت أية ذريعة- في المواجهة المسلحة غير المتكافئة مع النظام؛ مما أودى بها إلى ما لا تحمد عقباه، ولا تحسد عليه من مفاسد في الأرواح والأعراض والأرزاق إلى اليوم، فضلا عما لا يعلم مداه إلا الله من المعاناة في الداخل وفي الشتات العالمي.!!! وهذا يعني بكل وضوح أن حماس ليست معنية إلا بمشاكلها الداخلية في فلسطين وأن بوصلتها موجهة لهدف واحد لا ثاني له؛ وهو جهاد العدو، وتحرير ما أمكناها من أرض الرباط دون سواها؛ مهما حدث لهذا الشعب أو ذلك من لدن هذا النظام الفرعوني أو ذاك. لئلا تتهم بما لا قدرة لها على تحمله، وحتى لا يفعل بها ما فعل بغيرها من قبل كما سلف الإشارة إليه في الأردن ولبنان والكويت والعراق..إلخ
وإنه لمن الحمق السياسي والبلادة النضالية أن تسير حركة المقاومة المبصرة؛ -حماس- في هذا السرداب المظلم، الذي لن يوصلها إلا إلى الباب المفتوح على هاوية الكوارث التي لا مثيل لها ولا نجاة منها بالمرة. وهذا ما لا يفعله العقلاء، لأن أفعالهم منزهة عن العبث.
وعليه؛ يبقى خيار العودة الذي اتخذته الحركة بتوفيق من الله ابتداء، ثم بحنكة قادتها في فقه الفقه السياسي، وعدم جمودها على خيار واحد مهما تغيرت الظروف وتبدلت الأحوال؛ مع العلم أن فتوى الفقه عموما تتغير بتغير الشخص والزمان والحال في حق الأفراد، فكيف بفتوى الفقه السياسي؛ وهي في حق الأمة أو أغلبها أو في حق جماعة عظيمة منها، فهي أولى وأحق بهذا الفقه الذي قل من يفقهه من فصائل الحركة الإسلامية للأسف الشديد.
ومهما يكن؛ فإن فعل المفاصلة أو المصالحة في الفقه السياسي – كباقي الأفعال العملية – تدور أحكامه مع علته وجودا وعدما. فكلما كانت أوضاع أية حركة وظروفها وإمكاناتها لا تسمح بفعل المفاصلة والمقاطعة؛ لضعفها وانسداد جميع الأبواب في وجهها أمام قوة أعدائها وأعداء مصالح الأمة من حولها؛ وجب عليها مراجعة حساباتها وإعادة النظر في علاقاتها، ولو مع من لا يستحقونها في الأصل -لمظالمهم وجرائمهم التي لا تغتفر-؛ متى لم يبق لها إلا إعادة ربط هذه العلاقة أو تلك معهم للاستقواء بهم في دفع من هم أعظم شرا منهم، حتى إذا تغيرت الأحوال، ونضج الوعي العام، وأصبحت الحركة في منعة من شعبها وأمتها وأصبح لها من شرط التمكن ما يكفي ويغني؛ فلا عليها حينها إذا تمسكت بموقفها المبدئي في مفاصلة الظالمين، ومنازلة المحاربين إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.
وعليه؛ لا يمكن القطع في قضايا تدبير العلاقات والمعارك السياسية والعسكرية، برأي أو موقف معين بإطلاق. فالأمر فيها جد، ولذلك تبقى في جميع الحالات موكولة لما يراه أهل العلم من الخبراء وذوي النظر العميق، والتحليل الدقيق في فقه المقاصد وفقه الواقع، وطبيعة الظروف المحيطة، ونوع الفساد المستهدف بعملية التصالح أو التقاطع، وغير ذلك مما يدخل في شروط اتخاذ القرار المناسب في الوقت والمكان المناسبين.
وبعبارة أخرى؛ إذا كانت مختلف خيارات أساليب التعامل السياسي مقبولة شرعا، وجائزة من حيث المبدأ، إلا ما تعارض منها مع النص القطعي أو أنكره الشرع بإجماع. فإن اختيار هذا الأسلوب أو ذاك في التعامل السياسي مع أنظمة الفساد والاستبداد والإجرام العام؛ يجب أن يخضع لحساب عسير؛ لأن القول بجواز استخدام أسلوب من الأساليب، لا يعنـي جواز استخدامه في كل زمان ومكان وظروف ومع أيا كان … كما لا يسمح بالخلط بين أسلوب وآخر خلطا متخبطا، فيصبح العمل السياسي الإصلاحي مختبرا يجرب فيه على البشر. فإن لم ينفع، يجرب أسلوب آخر، وكأن شيئا لم يقع.
فهذا أمر يحتاج إلى أعلى درجات الأمانة والحرص؛ لأنه ” تجربة ” بأرواح الناس، مما يتطلب العقل الراشد والحس المرهف للأوضاع، والجهد المضنـي في اكتشاف نظرية العمل، لاختيار الأسلوب الأنسب، وإلا فالارتجال والضحالة والتبسيطية تقود إلى كوارث في عملية التغيير.
وما ذلك إلا نتيجة للجهل بالسنن، أو لقلة الحرص على حياة الناس، أو لعدم إدراك خطورة العمل في مجال التغيير، أو لضعف العلم بفقه المصالح العامة ومقاصد الإصلاح الاجتماعي العام، ولا سيما حين يتعلق الأمر بالأساليب المصيرية، التي إن لم تكن في مكانها وحينها المطلوبين، تعود بالمفاسد التي لا تقدر بثمن؛ فتهدر الدماء وتزهق الأرواح سدى وتضيع الفرص السانحة، وتنتكس الأوضاع أكثر … مما يعنـي استمرار ذل الأمة لعشرات من السنـين القادمة …
ولذلك؛ فلا يجوز استخدام أي أسلوب في التعامل السياسي أو العسكري كيفما اتفق، وبلا بصيرة وحسن تدبر وحساب. ولا يجوز أن يختبأ وراء النـية الطيبة في هذا المجال. لأن فيه إهدرا للدماء وإزهاقا للأرواح، وخرابا للعمل التغييري، وله نتائج سلبية على القضية والأمة برمتها، إن وقع الخطأ الفادح فيه.[1]
وهذا مما لا يجوز إغفاله أو التهاون فيه أبدا أثناء إدارة عملية المدافعة بين الحق والباطل في كل زمان ومكان.
ففي الوقت الذي يجب التمسك فيه بشرعية المفاصلة مع الظالمين من الناحية الاعتقادية. يجب استحضار مآلات أي إقدام عليها مع الحاجة الماسة إليها لسبب من الأسباب؛ بمقتضى مقاصدية المنهج في التنزيل العملي. وبدون استيعاب هذه المعادلة وترجمتها على مستوى الممارسة الفعلية، فلن يتقدم العمل السياسي الجهادي بأرض الرباط وغيرها خطوة إيجابية إلى الأمام.
وبهذا يظهر أن المفاصلة لا تجدي شيئا في غياب شرط التمكن، وتمام القدرة على المقاومة المؤدية لما هو خير مما هو واقع. وما كثرة التجارب الفاشلة، في العقدين الأخيرين على الأقل إلا دليل كاف على صحة هذا الملحظ.
ولهذا يبقى خيار المصالحة النافعة؛ هو الأليق بواقع الحال، لكن مع الاعتقاد بعدم شرعية من لا شرعية لهم من الظالمين. لأنه لا تكليف بما لا يطاق عند العجز عما يجب من الحق المقدور عليه. وهذا مما ينطبق على واقع الحال المعيش اليوم ببلاد العروبة وعالم الإسلام.
فحكام الجور ليسوا سواء في جورهم؛ بل هم درجات؛ بحسب معتقداتهم المرجعية، وقناعاتهم الفكرية، وانتماءاتهم السياسية، وطباعهم الشخصية، وتربيتهم العائلية، وعلاقاتهم الداخلية وولاءاتهم الخارجية، وغير ذلك.
ومن ثم؛ فمنهم من يمكن معايشته والتفاهم والتعاون معه بشكل أو بآخر، ومنهم دون ذلك. لكن تبقى قاعدة التفاضل والترتيب والموازنة والترجيح هي الأدوات المنهجية الشرعية العملية في تحديد نوعية التعامل، وتنزيل المواقف الملائمة من هذا النظام أو ذاك. بحسب ما يقدره أهل الخبرة والفقه بالسياسة الشرعية من مصالح هذا التعامل أو ذلك الموقف السياسي.
وهذا من أهم ما ينبغي لحملة المشروع الدعوي الإسلامي اليوم أن يكونوا منه على بال؛ لئلا يلحقهم من الوبال ما هم في غنى عنه، ولم يكلفهم الله به، وهم لا يستطيعونه. لقول الله تعالى:﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ.﴾ [ هود: 88 ]. وقوله: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ.﴾ [التغابن: 16].
وبهذا يتبين مدى قدرة الفقه السياسي المقاصدي على تنزيل الأحكام الشرعية؛ بما يقدم الحلول المناسبة لما يستجد من النوازل والقضايا، ويخدم المصالح الإنسانـية المعتبرة، بحسب ما تقتضيه حالات الضرورة، أو تستدعيه أحوال الطوارئ غير المرتقبة.
والعاقل من يميز بين خير الخيرين فيفعل أخيرهما، ويميز بين شر الشرين فيترك أشرهما. أي من يفرق بين الأصلح فالأصلح من الأعمال والعلاقات والمواقف … فيقدم على الأكثر مصلحة منها، ويفرق بين الأفسد فالأفسد من الأفعال والارتباطات والمواقف … فيحجم عن الأكثر مفسدة منها. وهو الميزان الذي جاءت به الشريعة وأرشدت إليه بقدر الإمكان.
وما على حركات النهوض ودعاة الإصلاح إلا أن يسترشدوا بهذا المنهج ويتسلحوا به ويأخذوا بأحسنه، ويتعاملوا بمنطقه في حياتهم الخاصة والعامة؛ بحيث تصبح قاعدة التفاضل والترتيب والتقديم والتأخير والموازنة والترجيح، بين الصالح والأصلح والمفيد والأفيد، والحسن والأحسن، والفاسد والأفسد، والقبيح والأقبح، والرذيل والأرذل في كل شيء، من القواعد الشرعية المنهجية المعتمدة باستمرار في الحياة اليومية للمسلمين على مستوى الفكر والممارسة. فلا يقدموا على أمر حتى يعلموا ما فيه من الخير الراجح والشر المرجوح، فيعملوا بأحسن العملين في كل عمل، ليحققوا أكمل النتيجتين، وينالوا أفضل الأجرين. وبذلك يكونوا من الراشدين على جميع المستويات وفي كل المجالات الخاصة والعامة. وبالتزام هذا المنهج المقاصدي في الإصلاح يتحقق الاستصلاح العام المبتغى ولو بعد حين. لأن ” الواجب الشرعي شيء والواقع المعيش شيء، والفقيه عالما كان أو حاكما من يطبق بين الواقع والواجب، وينفذ الواجب بحسب استطاعته، لا من يلقي العداوة بين الواجب والواقع، فلكل زمان حكم …
وإذا عم الفسوق وغلب على أهل الأرض … فالواجب اعتبار الأصلح فالأصلح، وهذا عند القدرة والاختيار، وأما عند الضرورة والغلبة بالباطل؛ فليس إلا الاصطبار، والقيام بأضعف مراتب الإنكار.”[2]
وفي هذا يقول العز:” ولا يجوز تفويت مصالح الإسلام إلا عند تعذر القيام بها … ومبنى هذه المسائل كلها على الضرورات ومسيس الحاجة، وقد يجوز في حال الاضطرار، ما لا يجوز في حال الاختيار.”[3]
وبكلمة أخرى؛ إن تحصيل خير الخيرين؛ إذا لم يمكن تحصيلهما معا؛ وتعطيل شر الشرين؛ إذا لم يمكن تعطيلهما معا؛ هي القاعدة الكلية العامة الحاكمة لمقاصد الشريعة ومصالح الإنسانـية كلها. فـ” إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين، وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما.”[4]
وبهذا نخلص إلى أن المتشبع بالفقه المقاصدي، الممارس المحتك بالواقع؛ أكثر دراية من غيره بالخالص أو الغالب من مصالح هذا العمل أو ذاك، في هذه النازلة أو تلك، من هذا الموقع أو ذاك، بحكم ماله من فقه في السياسة الشرعية، وتجربة في الساحة السياسية والجبهات الجهادية.
ولذلك يبقى الحكم بمشروعية المصالحة مثلا، أو عدم مشروعيتها؛ متوقفا على المعرفة الراجحة بنوع المصالح أو المفاسد الناجمة عن هذه المقاطعة أو تلك المفاصلة. ولا حق لأحد أن يقرر بشأنها أي شيء بالنيابة عن من هم في ميدان التدافع السياسي، والمقاومة العسكرية؛ من أهل الذكر والخبرة والفقه بأحكام السياسة وقواعد التنزيل المقاصدي بقدر الإمكان. إذ هم المعنيون بما ينفعهم أو يضرهم ابتداء، وإنما الأعمال بالمقاصد.
[1]– منـير شفيق، في نظريات التغيير، المركز الثقافي العربي، ط1، 1415 هـ/1994م، ص 45. 46. 47. 77. 78. 88. 89. بتصرف.
[2]– ابن القيم، إعلام الموقعين، تحقيق، محمد عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1411هـ/1991م، 4/169.
[3]– عز الدين بن عبد السلام، قواعد الأحكام في إصلاح الأنام، تحقيق، نزيه كمال حماد، وعثمان جمعة ضميرية، دار القلم، دمشق، والدار الشامية، بيروت، ط1، 1421ﻫ/2000م، 1/73، 74، 75.
[4]– ابن تيمية، مجموع الفتاوى، تحقيق، عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، منشورات مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416هـ/1995م، 20/48.