حينما أصيبت الدكتورة جين كالدر قبل ثلاث سنوات بالسرطان، رفض الاحتلال علاجها في مستشفياته، فهو يذكرها تماما منذ كانت صبية أتت للتطوع في الهلال الأحمر الفلسطيني في بيروت وهي ابنة العشرين.
لم يكن العمل الإنساني مجرد مهنة بالنسبة للدكتورة جين حين قررت قبل أربعين عاما أن تأخذ بدر ودلال ومحمد لتتولى تربيتهم دون أن تفكر في عواقب ذلك الفعل وما قدمته لاحقا من أثمان.
ثلاثة أطفال من ذوي الإعاقة، لا تُعرف لهم عائلة ولا اسم، انتشلهم الهلال الأحمر أحياء من بين الجثث بعد أن فقدوا عائلاتهم في أحد المجازر (الإسرائيلية) في بيروت، ولم يقبل أو يستطيع أحد رعايتهم.
تولت الدكتورة جين تربية ثلاثة أطفال لا يعرفون أماً غيرها، أحدهم معاق إعاقة جسدية وعقلية، ظلت معهم تتنقل من مكان لمكان وسط الحرب اللبنانية، وبين المجازر التي تستهدف الفلسطينيين، مرة يحاربها الاحتلال بمنعها من العودة إلى بيروت بعد زيارة عائلتها في استراليا، ومرة يستهدفها وأبناءها الثلاثة، فقررت عدم الخروج إلا بصحبتهم، والحياة لأجلهم للأبد، فكانوا ثلاثتهم حربها الحقيقية.
وتقول الدكتورة جين عن تجربتها في كتابها حيث يقود الطريق: "كم كانت قاسية تلك الأيام التي عشتها في بيروت، رفض اللبنانيون وجودي بحجة عدم امتلاكي تصريحا للعمل.
وتتابع: "بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان كانت الحكومة اللبنانية تخرج الأجانب العاملين فيها، حتى استطاع فتحي عرفات أن يحضر لي تصريح عمل من خلال جامعة الدول العربية وبعدها رفضوا وجودي بحجة عدم وجود فيزا، فعدت إلى استراليا".
تضيف في كتابها: "سجنوني مدة 3 أيام وأمروا بترحيلي فورا إلى خارج لبنان، ورفضوا تسليمي جواز سفري إلا وأنا في الطائرة، وغادرت قسريا لبنان وعيوني على المصابين والمكلومين خلفي، رحلوني إلى القاهرة وهناك عملت مع فرق الهلال مدة 12 عاما، استطعت خلالها أن أنشئ مركزا للتدريب والتأهيل استفاد منه الفلسطينيون والمصريون.
قررت الدكتورة جين الانتقال بصحبة أبنائها إلى القاهرة مع انتقال الهلال الأحمر، وظلت هناك مدعومة من الهلال، تعمل وتربي حتى كبر الأبناء، ووُقعت اتفاقية أوسلو، عندها قررت أن تعود بهم إلى قطاع غزة.
تعاني دلال من إعاقة بصرية، ورغم كل ذلك انتهت من دراسة الماجستير بتفوق وبدعم الدكتورة جين، وعينت معلمة في كلية تنمية القدرات التابعة للهلال، وقد تزوج بدر قبل أعوام، وتوفي محمد قبل عشر سنوات، ولا زالت الدكتورة جين شريكة لمن تبقى في لحظاتهم التي عاشت معهم فيها كأسرة متكاملة لا ينقصها أم.
حافظت الدكتورة جين على هوية أبنائها الإسلامية، وشاركتهم طقوسهم الدينية، فتصوم مع الصائم وتدعم المصلي، وعززت لديهم دينهم فدعمتهم ليدرسوا تعاليمه ويطبقوها.
عاشت مع دلال وبدر بعد موت حمودي كما كانت تحب أن تناديه، حتى الأمس في بيت مكون من طابقين أحدهما يعيش فيه بدر وزوجته، والآخر كانت تعيش فيه الدكتورة جين مع دلال، وقد اشترته ودلال بأموالهما، وبمساعدة من جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، وسجلته باسم دلال وبدر.
اليوم رحلت الدكتورة جين بعد معاناة مع المرض وحرب أخرى مع السرطان، بعد أن عاشت حروب غزة بكل تفاصيلها، حصارها ومعاركها السياسية منذ اتفاقية أوسلو حتى الآن، ودفنت فيها.
ليست مجرد سطور تلك التي ستحكي عن إنجازات أكبر من الكتابة، لدكتورة عاصرت كل مأساة الشعب الفلسطيني عن قرب، جربت الحروب وكتفها تسند ثلاثة أطفال فلسطينيين من ضحايا الاحتلال.
الراحلة جين دعمت شعبا كاملا بعد أن أقامت في غزة وبدأت عملها في خدمة الشعب الفلسطيني وأطفاله المعاقين، بتدريب كوادر فلسطينية في كلية تنمية القدرات التي أنشأتها في مقر الهلال الاحمر الفلسطيني بمدينة خانيونس حيث ترأست عمادتها.
دلال وبدر الحزينان والوحيدان في بيت بارد يخلو من الدكتورة جين، لكنهما لن ينسيا اليد الوحيدة التي أعادت إليهما كلمة ماما التي فقداها على يد الاحتلال.