نعيش ذكرى انتفاضة الحجارة المشتعلة في 8-12-1987. وسميت لحظتها بثورة المساجد؛ لدور المسجد في هذه الهبة الجماهيرية العفوية المفاجئة، فصدمت العالم وحركت القضية بعد سنوات من التيه والهزائم، وأسست مدرسة في الثورات الحديثة ونشرت الوعي الثوري وشكلت الوجدان العربي الرافض للاحتلال.
قبل الانتفاضة تركز العمل الفلسطيني المقاوم خارج أرض فلسطين التاريخية، ففي لحظة اشتعال ساحات الأردن ولبنان ومن ثم تشتت القوى الفلسطينية بعد حرب بيروت، كانت الساحة الداخلية تشهد هدوءا وتعايشا، وإن كان الحس الثوري لم يتوقف من غير فعل، وبدأت تتململ بالبروز القوي للتيار الإسلامي بعد تأسيس المجمع والمؤسسات المختلفة وظهور نشاطات الشيخ أحمد ياسين.
بدأت الانتفاضة في مخيم جباليا وامتدت لتشمل قطاع غزة ومن ثم انتقلت للضفة الغربية بما فيها القدس عبر مراحل متلاحقة، وتركزت سبل المواجهة على رجم الجنود ومعسكرات الجيش بالحجارة والزجاجات الحارقة.
أبدعت الانتفاضة في أشكال المقاومة منها الإضرابات، والمتاريس، والكتابة على جدران المنازل، وتعليق الأعلام الفلسطينيه، والمسيرات الحاشدة التي تحتك بالجيش وتعلي الصوت الفلسطيني، بالإضافة لانتشار الفن الوطني الملتزم الذي ألهب الجماهير.
انتقلت وسائل المقاومة والمواجهة نقلة نوعية من الحجارة للسكاكين التي فجرها البطل عامر أبو سرحان، بقتله ثلاثة إسرائيليين في القدس انتقاما لمجزرتي الأقصى وعيون قارة، فأبو سرحان ألهب الخيال الفلسطيني وشجع عشرات الشباب المتحمس من استخدام السكين للإثخان بالعدو.
بدأ العمل المسلح يبرز رويدا رويدا وتم تأسيس كتائب القسام ومجموعات النسر الأحمر وصقور فتح والفهد الأسود، وأصبح عشرات من الشباب في الضفة وغزة يحملون السلاح ويشكلون مجموعات مسلحة، يتوارون عن الأنظار نهارا ويخرجون فجأة فينفذون العمليات المباغتة، وقد شكل تطور الانتفاضة قلقا حقيقيا للاحتلال، وبدأ يتكبد خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات، وقد تميز الشهيد عماد عقل الذي تنقل بين غزة والخليل ونفذ عمليات نوعية بارزة قتل خلالها وأصاب عشرات من جنود ومستوطني الاحتلال، وأدت عملياته المكثفة مع إخوانه لشن الاحتلال حملة إبعاد لأكثر من 400 قيادي في حركتي حماس والجهاد الإسلامي.
بعد ازدياد العمل العسكري المسلح وتطور الأداء المقاوم لجأ الاحتلال للحيل السياسية، فما فشل بأخذه بالقوة أخذه بالسياسة، فرفع شعار مؤتمر السلام وخدع القيادة الفلسطينية باتفاقية أوسلو التي قَسمَت الفلسطينيين ما بين مؤيد ومعارض، لتدخل السلطة بقيادة المرحوم ياسر عرفات وتنهي الانتفاضة الفلسطينية التي تميزت بالتآلف والتآخي والوحدة والهدف المشترك.
ولولا عملية السلام واتفاقية أوسلو لحققت هذه الانتفاضة أهدافها، وتطلعات الشعب الفلسطيني، إلا أن استفراد عرفات بالقرار والتوقيع على اتفاقية أوسلو أثر سلبيا على أنبل ظاهرة فلسطينية عرفها التاريخ، وأربك الحسابات الداخلية وقيد الشعب بسلطة والتزامات أمنية، تقوم على أساس إغراق القيادة بالامتيازات مقابل التخلي عن الدور الوطني.
لازال العمل السياسي يحبط تطلعات شعبنا، ويكبح تقدمه ويخدعه ويقلل من إنجازاته ويهدر ويبدد طاقته، لهذا إن حالة الاشتباك الجماهيري والشعبي في الضفة الغربية مع العدو، وتوسع عمليات عرين الأسود وكتيبة جنين، وتحرك الخليل وزيادة العمليات الفردية هي الضمان لاستعادة الحقوق وتحرير الضفة، ووقف التغول الإسرائيلي على أرضنا ومقدساتنا، وستفشل حكومة نتنياهو بن غفير الفاشية المتطرفة، ولن تنجح عمليات الضم والسلب، فلقد أثبتت التجارب التاريخية أن الاحتلال ينكمش في لحظة المقاومة الشعبية الشاملة، وينبسط وينشط ويتغول ويكتسح لحظة الهدوء والمبادرات والتنسيق الأمني، والتسوية التفريطية.