مضت على عملية الإبعاد إلى مرج الزهور ثلاثة عقود، لكن ذكراها لا تزال حاضرة في أذهان المبعدين، فعند مجالستهم تحضر الذكرى لتروي تجربة عاشها العشرات من الشباب برفقة علماء ومؤسسي الحركة الإسلامية "حماس" من شمال فلسطين إلى جنوبها.
ورغم أن عملية الإبعاد اتخذها الاحتلال (الإسرائيلي) كسياسة عقاب للمنتمين إلى حركة حماس، إلا أنها واقعيا جاءت عكس ذلك، فكانت فرصة لالتقاء مؤسسي الحركة من كل المدن والقرى الفلسطينية لتبادل الخبرات وليؤسسوا مرحلة جديدة، وكان ينصت ويستفيد من ذلك أصغرهم سنا آنذاك الشاب "عرفة المصري" – 49 عاما- من بيت لاهيا.
عادت "الرسالة نت" مع المصري لذكريات الإبعاد التي بدأ يروي تفاصيلها كأنه عاد منها حديثا فيقول: "أُبعدت إلى مرج الزهور بعد اعتقالي في سن السادسة عشر مدة ثلاث سنوات، وكان برفقتي شقيقي (سليمان) وعدد من شباب منطقتي المقاومين.
صورة عرفة المصري خلال إبعادة إلى مرج الزهور
يتابع: "بعد الإفراج عني من سجون الاحتلال بقيت 4 شهور أنعم بالحرية بين أهلي، لكن سرعان ما جاء قرار إبعادي(..) لم أخش شيئا رغم توقعي إعادة الاعتقال وليس الإبعاد في ذكرى انطلاقة حماس".
ويصف تجربته في الإبعاد بأنها ممتزجة بالألم والفخر على حد سواء، فالأول لبعده عن عائلته، بينما الثاني لمرافقته ثلة من المؤسسين الأوائل والعلماء والكبار من الحركة الإسلامية.
ويحكي المصري أن الإبعاد عرّفه على الشق الثاني للحركة في الضفة المحتلة وكان ذلك شيئا مميزا حيث تعلم معنى العطاء والتضحية للوطن، مشيرا إلى أن الإنسان لابد أن يزرع ويبذل جهدا لتحرير بلاده مهما واجه من صعاب طالما هناك هدف وهو قلع الاحتلال.
صقيع دون ملابس ثقيلة
بعد عام من إبعاده وعودته إلى عائلته في قطاع غزة برفقة العشرات من المبعدين، التحق بكلية الشريعة الإسلامية في الجامعة الإسلامية عام 1994، وبعد تخرجه عمل موظفا ولا يزال في وزارة الداخلية.
ويسرد المصري بعض تفاصيل الحياة اليومية التي لم تغب عن باله رغم مرور ثلاثة عقود ويقول: "في الأشهر الأولى من الإبعاد كانت المعاناة في طريقة إحضار المواد التموينية، حيث كنا نتقاسم مهام الخروج ليلا".
ويضيف: "في ليل معتم وبرد قارس والثلج يغطي الأرض نغوص حتى الركب لنمشي عدة كيلو مترات، ونصعد الجبال حتى نحصل على الطعام والشراب، ونعود مسرعين إلى الخيام لإمداد المبعدين بحاجاتهم".
ومن الأمور الصعبة التي يقصها أنه في الأيام الأولى من وصولهم إلى مرج الزهور كان الصقيع شديدا ولم يعتد عليه مبعدو قطاع غزة تحديدا لذا مرض عدد كبير منهم وبقوا طريحي الفراش، خاصة أن ملابسهم التي حملوها معهم كانت خفيفة.
وعن بقية الأيام ذكر المصري أنهم كانوا يتشاركون الخيام ويصلون سوية الصلوات الخمس وكان أحد المكلفين بالإمامة رغم صغر سنه، ويعلق هنا "رغم وجود جهابذة من العلماء إلا أنهم شجعوني على الإمامة مما أكسبني الثقة بنفسي أكثر".
وكعادة الشباب المقاوم حين يعتقله الاحتلال يكسر قيده داخل الأسر بالتعليم، كذا فعل المبعد المصري في مرج الزهور فحصل على دورات عليا في تلاوة القرآن الكريم وحفظ أجزاء عدة منه، عدا عن ملازمته لكبار العلماء فتعلم الكثير من تجاربهم حين كان ينصت لهم باهتمام.
إعادة الذكريات في مرج الزهور
بعد عودة المصري من إبعاده وتخرجه من الجامعة الإسلامية، تزوج وأنجب حمزة وضحى، ورغم أنهما كبرا لا تزال أسئلتهما لوالدهما حاضرة ليقص عليهما المزيد من تفاصيل الإبعاد فيجيب دون ملل.
وتتمحور أسئلة أطفاله حول نوع الطعام الذي كانوا يأكلونه، وهل كان يسمح لهم بالتنقل في لبنان؟ وهل كان الاحتلال يطلق عليهم الرصاص؟ ولماذا عادوا إلى فلسطين؟
يجيبهم كل مرة عن تلك الأسئلة وهو يستذكر خيمته ورفقاءه من الضفة وغزة، منهم من ارتقى شهيدا ومنهم من بقي في المعتقل، وغيرهم أحرارا.
أما ما يفعله المصري برفقة مبعدي مرج الزهور في قطاع غزة، فهو يخبر أن لديهم عادة سنوية حيث يجتمعون في ذكرى الإفراج عنهم في مكان واحد دون انقطاع، يستذكرون أيامهم فيضحكون ثم يترحمون على من فقدوا، يحكون تلك التفاصيل كما لو كانت العام الماضي فمن ينسى شيئا سرعان ما يذكره الآخرون به، ثم يشربون القهوة ويتناولون الحلويات، ويأخذون صورة جماعية لتبقى ذكرى فيما بينهم.