الأب معتقل، والابنان نور ومحمد غنيم كانا ضمن عشرة شهداء ارتقوا في مخيم جنين، يوم الخميس، بينما يرقد شقيقهما الثالث في العناية المكثفة، في هذه المعادلة لا تبدو الحياة خيارا مطروحا، وإنما شكل الموت الذي يختاره صاحبه هو الفاصل.
أصوات الرصاص وأربعون مدرعة تدخل المخيم لتستهدف منزلا اعتصم فيه المقاومون، وتستمر الاشتباكات لثلاث ساعات متواصلة، بدأت من الساعة السابعة صباحا، والأصوات فاقت التخيل، ولم يعد يدري سكان المخيم إلى أين يلجؤون.
التفجيرات تزداد، والطواقم الطبية ممنوعة من الدخول، والأخبار هناك تتحدث عن قتلى، بينما لا يقوى من هم خارج المخيم على الموت أو على عد الموتى.
تقول أم شادي غنيم عن تلك اللحظة: "دخلوا المخيم، واليهود كلموني، قالوا خلي اولادك يسلموا حالهم، المخيم محاصر"، وتضيف: "نزلت إلى الشارع، رحت أركض لقيت عشرين سيارة مسكرة الطرق، ورجعت على البيت، لقيت الخبر سابقني، نور ومحمد استشهدوا، وأحمد مصاب في المستشفى".
لم تكن الشهادة اختيارا بالنسبة لنور ومحمد، ولكنها الخيار الوحيد المتبقي، لذلك لطالما ردد نور على مسامع أشقائه: "ديروا بالكم على حالكم وعلى أمي".
تعطل المخيم بالكامل، لا صوت سوى أصوات القتل والرصاص منذ ساعات ما قبل الفجر، وحتى ما قبل منتصف نهار الخميس، والأخبار تتوالى والاحتلال يقول إن هدفه قائد في حركة الجهاد الإسلامي، ومنع هجوم كبير ضد أهداف (إسرائيلية)، كما تقول الرواية المضللة دوما، لتخلق ذرائع لممارسة القتل.
تضيف أم شادي غنيم، وهي تقلب صورتي ابنيها الشهيدين: "كانا دائما ملتصقين ببعضهما البعض، حتى صورهما كانت دائما معا".
في هذه القصة طريق لا عودة فيها، رغم محاولات الاحتلال الدائمة والخادعة أيضا، فهو يساوم الأم مرة، ويساوم الأب مرات أخرى حينما اعتقله لخمس سنوات كنوع من الضغط على نور ومحمد ليسلما نفسيهما، ولا تدري العائلة كيف سيكون مصيره بعدما قتل الاحتلال نجليه.
وتقول الأم أن أبا شادي لم يعلم باستشهاد نجليه إلا في اليوم الثاني، وقد كانت معنوياته عالية، رغم أنها لم تستطع أن تتحدث إليه حتى يتقبل الصدمة، علما أن هذه السيدة التي لم تتجاوز الخامسة والأربعين هي شقيقة لثلاثة شهداء.
في منزل عائلة الصباغ اعتصم المطلوبون جميعهم، وهذا المنزل يعود إلى قائد في كتائب شهداء الأقصى، الشهيد علاء الصباغ الذي استشهد في اجتياح جنين عام 2002، ولأن المخيم لا يمكنه أن يكون عقيما يوما، فضل ابنه زياد أن يؤوي فيه المقاومين المطاردين من أبناء المخيم منذ أيام طويلة، قبل أن يعرف الاحتلال بمكان اختبائهم ويقتحم المخيم فجر الخميس.
وهناك ما بعد الانسحاب، وفي المنزل الذي انهارت جدرانه، كانت الجثث ملقاة ومتفحمة عندما دخل الصليب الأحمر والطواقم الطبية لانتشالها، تسعة شهداء من أبناء المقاومة من كافة الفصائل يرتقون ثم يدفنون جماعيا، وتلف أجسادهم بالأعلام، ويرسلون رسالة إلى كل فلسطيني، بأن المخيم الولّاد، لا يموت أصحابه للأبد.