وليد الدّقة: أدب الحريّة والمقاومة بالجمال

إبراهيم نصر الله

سبق لي أن تشرفت بتقديم عدد من الروايات والمجموعات الشعرية لأسرى يقاومون بجمال إبداعهم، وأشرت إلى أن كتابات الأسرى تؤكد حكمة جداتهم وأجدادهم الذين قالوا «باب السجن ما بِتْسَكَّر» وهم ينتجون أعمالاً يتجاوزون بها القضبان، ويبلغون بها ومعها أفق حريتهم.

تضيف كتابة الأسرى، بهذا، معنى آخر للأدب ومفهوم الأدب، بحيث يبدو الإنجاز الأكبر لهذه الكتابة أحياناً أنها تحققت، وأن الأسير استطاع بها أن يعيش طوال فترة العمل عليها عالَماً لا يشبه ليل السجن وجهامة السجان.

من هذا المنظور يمكن اعتبار هذا الفعل الإبداعي كتابة مُلحَّة، ضرورية، حيث يبدو الخيال شكلاً من أشكال مواصلة العيش، كالخبز والماء، بل يبدو مثل المِلح والماء في لحظات التّحدّي، فبها يتواصل صمود كاتبها، ويتواصل تحديه، ويتواصل إصراره على أن أحداً لا يستطيع أسر أحلامه وخياله.

الكتابة هنا هي ساعة «الفورة»، بل زمن الفورة الأكثر اتساعاً؛ فورة الروح التي لا تستطيع الجدران أن تأسرها ولا الأسلاك الشائكة والبنادق الجائعة لضحايا جدد، ولا الزمن المقفل القاسي.

إن مجرد مولد عمل فني في السجن فيه أعمق معاني الكتابة وأجملها، ودليل مضاعف على جدواها.

لذا، لا تستطيع كقارئ لهذه النصوص، إلا أن تكون داعماً لهذا القلق الاستثنائي الذي يعصف بالنص وكاتبه، في زمنهما الخاص بهما؛ زمن الأسر، زمن انعدام الحرية المحتشد بشهوة الانعتاق، والتعبير عن الذات بالذات وبالآخرين في آن، لأننا جميعاً لا نملك إلا أن نستعين بحكايات وأرواح سوانا ونحن نروي قصتنا.

قد يكون النص نصاً أوّل لكاتبه، وقد يكون ما قبل الأول، لكنه في جميع الحالات نص أساس لروح صاحبه وقوة أمله.

هكذا نقرأ كلّ نصٍّ استطاع به صاحبه التمرّد على المساحة الأكثر ظلمة، وهو يستخدم كل ما هو متاح، ولو كان هذا المتاح حجرين، ليشعل ناره؛ أولم تكن حجارتنا خارج السجن، هي الشيء الوحيد الذي نملكه، لكننا لم نشكك قطّ في قدرتها على إشعال نارنا العظيمة.

الكاتب الفلسطيني الأسير وليد الدقة، كتب روايته «حكاية سر الزيت» قبل ثلاث سنوات من مولد ابنته «ميلاد» من نطفة محررة، وكان بطل روايته هذه، الصغير «جود»، قد ولِد من نطفة محررة! كما لو أن ميلاد رأت النور على الورق قبل أن تراه في الناصرة، رأت النور وتشكلت في أحلام أبيها وتوقه للحرية والحياة المتجددة، وحين كتب وليد بعد مولدها بعام تقريباً، قصة على لسانها، تحدّث عنها آمِلاً أن «تؤلّف اللحنَ الذي لم يُلحَّنْ بعد، أو تصبح عالمَة فلك، أو ربّما تكتشف دواءً للسرطان».

بعد عام من كتابة هذه القصة أُعلن عن إصابة وليد بالسرطان؛ فأي رؤى هذه التي ولدت في عتمة الزنزانة والحبس الانفرادي، وأي ليل هذا الذي أطبق على وليد حين أصيب بالمرض بهذه السرعة، قبل أن تكبر ابنته الصغيرة وتجد علاجاً لكل الناس.

«حكاية سرّ الزيت» رحلة فلسطينية شديدة الخصوصية يقوم بها الطفل جود مع رفاقه مظللين بحكمة الزيتونة، لاختراق جدار الفصل العنصري واختراق أسوار السجن، لزيارة أبيه الأسير.

كل ما يحدث في الرواية يحدث خارجها، وتبدو المسافة بين أحلام أبطالها وأحلام كاتبها متشابكة حيناً ومتقاطعة حيناً، ومكثفة بصورة غير عادية، وكأن الفلسطيني لا يرسم قدره في علاقته بالحرية، ودفاعه عنها وحسب، بل هو ملزم أيضاً بأن يعمل الكثير ليكون مستقبله على صورة حلمه.

ما يلفت الانتباه أن وليد الأسير المحكوم بالسجن 37 عاماً، (زادها العدو الصهيوني عامين عقاباً له)، كتب هذه الرواية وروايات غيرها للأطفال، روايات لم تكن عن عمليات التعذيب والحبس الانفرادي والأحكام القاسية، فكأنه بذلك يتشبث بزمن البراءة ويشهره في وجه التوحش ويحصن به روحه وروح ابنته وأرواح ملايين الأطفال الذين حوصروا منذ بمولدها بمارشات العسكر القتلة.

تبدو الكتابة للأطفال هنا أكثر اتساعاً في معناها، فكأن المقاومة ليست في الصمود والمعارك التي تخوضها الحركة الأسيرة، بمجملها، أو بأفرادها، ضد الفاشيين والقوانين الفاشية وحسب، بل أيضاً في قدرة الأسير على التمسك بالبراءة والفرح والخيال الطليق، ضد الوحش وأنيابه؛ لذا ليس غريباً أن تلتقي في هذه الرواية مخلوقات أخرى لتعيش حلم الصغير جود وتحرسه وتحوله إلى حقيقة، من شجرة الزيتون إلى الطائر والقط والكلب أبي ناب، كما لو أن هذه الخلائق التي تتحد لا تتحد من أجل تحقيق حلم لقاء الصغير بأبيه، بل تتحدّ أيضاً لمقاومة ذلك التوحش الذي يرزح تحت ثقله وطن بأكمله، ولعل ذلك ما رمت إليه الرواية في نهايتها وهي تحوّل قصة جود إلى حالة عامة، لا تمسّ الأطفال المحرومين من زيارة آبائهم وحسب، بل تمس وطناً بأكمله، من نهره لبحره، غير مسموح له أن يلتقي بنفسه في الحرية.

وبعد:

في حديثها قبل أيام عبر إذاعة فلسطين، كشف السيدة سناء سلامة زوجة الكاتب، عن الظروف التي عاشها زوجها، وعن ذلك الإهمال الإجرامي المتعمد من قبل سلطة السجون في توفير الرعاية الصحية له، ما أدى إلى تفاقم حالته الصحية، وتحدثت عن كيف اختار وليد اسم ميلاد لابنته أو ابنه، قبل مولده، وكيف أراد أن يكون اسمه جملة مفيدة كاملة، وليس اسماً وحسب، فكان الاسم «ميلاد وليد الدقة»، وكان له ما أراد، في واحدة من حكايات البطولة الكبرى التي حققها كثير من السجناء الفلسطينيين بنجاحهم في تهريب النطف ليكون هناك خارج القصبان جزء محرر منهم، من لحمهم ودمهم وأرواحهم، يضحك ويلعب ويكبر ويعيش ما لم يعشه آباؤهم الأسرى.

الأسرى في كتاباتهم ليسوا بعيدين عن هذا المعنى، كتاباتهم التي باتت تشكل مكتبة أدب الحرية، وليس أدب السجون كما جرت العادة أن يطلق على هذا النوع من الكتابات التي تولد خلف القضبان وتعيش في الحرية.

متعلقات

أخبار رئيسية

المزيد من ثقافة

البث المباشر