يعيد التاريخ الفلسطيني نفسه، ففي الوقت الذي تحل فيه ذكرى النكبة الـ 75 لم يعد الأطفال في غزة بحاجة لسماع قصص الأجداد التي اعتادوا عليها منذ زمن، فهم يعيشون اليوم نكبة جديدة على يد ذات المجرم: الاحتلال (الإسرائيلي).
أطفال لم تتجاوز أعمارهم الثانية عشرة، عاشوا تفاصيل النكبة عدة مرات وقت التصعيد الحربي على قطاع غزة، حيث تجبرهم آلة الحرب (الإسرائيلية) على الرحيل من منازلهم في كل مرة، عدا عن عشرات المنازل التي تحولت إلى ركام.
ففي المعارك الأخيرة على القطاع، لم يهرع الصغار إلى حضن أمهاتهم هربا من الصواريخ، بل غدوا كبارا بفعل ما عاشوه من أيام قاسية، فكل عام هم على موعد مع أسبوع عصيب أو أكثر يفقدون ذويهم أو أصدقاءهم أو بيوتهم.
اليوم بات الصغار هم أبطال الحدث كله، فهم من يًقتلون ويًستهدفون، وهم من يروون الحكاية، كما أنهم من يستطيعون تمييز نوع الصاروخ الذي ضرب بيوتهم أو نوع الطائرة الحربية التي تحوم في السماء لتدمير الحجر والبشر.
**** أطفال يسردون نكبتهم
في اليوم الأول لمعركة (ثأر الأحرار) كان المشهد الأول للصغيرة ميرال التي كانت تبكي أباها الشهيد الدكتور جمال خصوان وتسأل عنه، وكان رجال الإسعاف يهدؤون من روعها.
ستكبر الصغيرة وتحكي لأبنائها وأحفادها ماذا حدث وستكون شهادتها مادة توثق جريمة محتل غاشم.
توالت المشاهد لأطفال يبكون رفاق الدراسة الشهيدين علي وميار عز الدين اللذين رحلا برفقة والدهما الشهيد طارق عز الدين.
بكى عليهما الصغار كما لو كانوا كبارا يفارقون أحبة ارتبطت أرواحهم سويا، بكوا ذكرياتهم البسيطة كما فعلت تقى الدلو التي بقيت تقلب صندوق الهدايا التي قدمتها لها من فترة قريبة صديقتها الشهيدة ميار.
على ركام منزله، جلس الطفل مجاهد طه يبكي بحرقة بيتهم الذي دمرته طائرات الاحتلال، هذا الصغير لم يفعل شيئا كان يجلس آمنا برفقة عائلته، حتى جاء صاروخ باغت كل أحلامه، فسريره الذي كان يتقلب عليه يوميا وهو يحلم بمستقبله لم يعد له أثر.
يبكي الصغير مجاهد كما لو كان رجلا بنى البيت حجرا حجرا، يتنهد أكثر فهذا بيته الذي ترعرع فيه وشهد شجاره مع إخوته الصغار، لعب وفرح.
إحدى الزاويا شهدت عودته من مدرسته مهللا وهو يحمل شهادته متفوقا، كل تلك الذكريات دمرت دون ذنب اقترفه وعائلته.
أما الصغير زين، وأخيرا وجد حصالته التي ادخر فيها مصروفه اليومي، بحث بجسده الصغير تحت الركام عن مقتنياته، حاول أن يصل إلى ملابسه لكنه فشل وعلق "لم أجد ملابس البحر (..) وجدت حصالتي فيها نقودي سوف أشتري سريرا وبسكليت"، وبعد معاناة أخرج شهادة تفوقه حملها وتمسك بها خشية أن يفقدها مرة أخرى.
ومن المشاهد الموجعة التي تركت أثرا مشهد ابن الشهيد أحمد أبو دقة، ذاك الفتي الذي لم يتجاوز العشرة أعوام، علم باستشهاد والده فلم يصدق. كان يجرى كما الكبار يبحث بعيونه عن أحد لينفي الخبر وحين علم بكى كما الرجال.
وقف الصغير ينعى والده أمام الجميع ويقول: "أودعك أبي الحبيب، ذهبت لأصحابك أبو منصور وبهاء، الله يرحمك يا أبي".
أما الطفلة سوزي اشكنتنا، التي عرفها الجميع بعد فقدها خمسة من أفراد عائلتها في مجزرة شارع الوحدة وقت معركة سيف القدس مايو 2021، وهذه المرة عند قصف بناية في حي النصر كانت حياتها معرضة للخطر من جديد.
خرجت سوزي إلى الشارع برفقة من تبقى من عائلتها، لم تستوعب ما يجري، الجميع اقترب لمواساتها لم تتفوه بكلمة وكانت نظراتها أقوى من الكلمات.
قصص كثيرة تحفظها ذاكرة الصغار ليحكوها لأبنائهم وأحفادهم عن رحلة التهجير من بيوتهم بفعل قصفها، وعن فقدان ذويهم وأصدقائهم، وعن ليالي طويلة تشبه أفلام الرعب، لكن وقتها غالبا سيكون الاحتلال إلى زوال.
ويبدو واضحا من خلال الشواهد، أن الاحتلال يتخذ من الأطفال بنكا لأهدافه، وفي هذا السياق يعلق الحقوقي مصطفى إبراهيم بالقول: "استهداف الأطفال جريمة مخالفة للقانون الدولي حيث يتعمد الاحتلال استهداف الأكثر ضعفا".
ويرى إبراهيم أن المجتمع الدولي ظالم، فالأمم المتحدة وقت حرب روسيا وأوكرانيا استنكرت جميع الجرائم، بينما ما تفعله صواريخ الاحتلال يتم التغاضي عنه رغم استهداف الأطفال بشكل متعمد، مؤكدا (للرسالة نت) أن هناك ازدواجية في المعايير الدولية على المستوى القانوني حيث التنكر لحقوق الشعب الفلسطيني وأطفاله، ودعم (إسرائيل).
وشدد على ضرورة أن يكون هناك إجراءات قانونية على المستوى الدولي لمحاسبة الاحتلال على جرائم الحرب التي يستهدف الأطفال فيها بشكل متعمد.
ويؤكد الحقوقي أن (إسرائيل) تتعمد استهداف الأطفال لكي الوعي لديهم وليخشوا مقاومته حين يكبرون، وهذا يخالف القانون الدولي واتفاقية جنيف