ليلة حالكة تلك التي قضاها الفلسطينيون بالأمس، وعيونهم مسلطة على نشرات الأخبار، تحدق في أقدار مخيم جنين، بينما يواصل الاحتلال هجمته لليوم الثاني على المخيم، بحجة البحث عن مشتبهين بتنفيذ عمليات مسلحة ضده.
يدعي الاحتلال أن هناك قائمة مكونة من ثلاثمائة اسم، وعليها بدأت مكبرات الصوت التابعة لمدرعاته وجنوده المدججين بكل أنواع الأسلحة بالنداء على أهالي المخيم من أطرافه ليغادروه خلال ساعة، كان ذلك يعد يوم ونصف من المحاولات المستميتة لدخول المخيم دون أن تقدر على ذلك المدرعات والمصفحات والسيارات المزودة بأعتى الأسلحة وأكثرها تطورا.
أدخنة تتصاعد من كل مكان على أطراف المخيم، من شارع حيفا تحديدا، حيث المواجهات كانت تتأجج ساعة بعد ساعة، ومع نهاية النهار كان الاحتلال قد قتل عشرة في جنين، وجرح مائة بينهم عشرة في حالة الخطر، بينما اعتقل 120 مقاتلا.
نتنياهو يعلق بين الوقت والآخر، يشارك السفير الأمريكي مخططاته، يقول بكل جرأة في إشارة لأبطال جنين: "مكان هؤلاء السجن أو المقبرة" وأمريكا ترد: "من حق (إسرائيل) أن تدافع عن نفسها".
ولكن الدولة العظمى والجيش الذي لا يقهر لا يستطيع المناورة في أزقة المخيم الضيقة ويخاف على جنوده من أبطال الليل، وعلى ذلك فقد أخلى المخيم كاملا من أصحابه تحت تهديد السلاح، وقطع الكهرباء عن بيوتهم.
جرفت المدرعات شوارع المخيم، تحولت الأزقة إلى ساحة حرب ووسعت على حساب جدران البيوت التي أهلتها الجرافات لتعطي مدرعاتها فرصة الدخول، العتمة تلف المكان حسب شهود عيان نزحوا مجبرين من بيوتهم، يجرون أبناءهم وشيوخهم ونساءهم، الجدران مهدمة، والبيوت متهالكة، مشهد المخيم بات مرعبا.
وفي آخر الليل بدت المدينة وكأنها تحمل على أكتافها نكبة تهجير جديدة، تحتضن بيوتها وفنادقها ونواديها ومدارسها أقدام المواطنين العزل الهاربين من الموت بأقدام حافية وأمل معلق على بوابات المخيم.
على المدخل الشرقي للمخيم كان الصحافيون يرصدون صورا لمشاهد إخلاء الأهالي برفقة سيارات الهلال الأحمر والحافلات التي تنقلهم إلى قلب المدينة، وقسم آخر توجه إلى مستشفى جنين الحكومي، بينما بدأ الفلسطينيون في مدن الضفة الأخرى بإرسال مساعداتهم للأهالي، بين خوف بأن يعطي الإخلاء فرصة للاحتلال للاستفراد بمقاتلي المخيم ويزداد القتل والتدمير.
في الأربعة والعشرين ساعة الماضية، استبدل الاحتلال قواته ثلاث مرات، بينما بقي المقاتل الفلسطيني وحده لأربع وعشرين ساعة دون نوم أو راحة.
الحواري التي تؤدي إلى المخيم كلها مستيقظة، وفي حالة ترقب، تعد أصوات القنابل ولا تعرف وجهتها، منطقة خلة الصوحا، ثم جورة الذهب، ثم حارة الدمج، الجابريات، دوار العودة، قلب المخيم، كلها حوار في قلب المخيم لا يستطيع الاحتلال الوصول إليها دون إخلاءها.
وقال الهلال الأحمر الفلسطيني إن طواقمه تمكنت من إخراج نحو 3 آلاف فلسطيني من مخيم جنين رغم الدمار الذي لحق بالطرق نتيجة تدمير آليات جيش الاحتلال لها.
خالد العمايرة المحلل السياسي يصف العمليات بأنها لتركيع الفلسطيني، وإن نجحت في جنين سيأت دور نابلس، ثم كل مدينة تظهر فيها أي مقاومة لأن الاحتلال يريد القضاء على كل أشكال المقاومة حماية لغطرسته، ولتصفية القضية الفلسطينية.
الخطوة التالية من وجهة نظر عمايرة هي القضاء على كل أمل متبقي أو حلم بدولة فلسطينية ذات سيادة ، وبالأمس قالها عضو حزب الليكود بأن هذا هو الهدف الاستراتيجي غير المعلن للعملية بجنين وذلك لا يتم التأكد من تحقيقه طالما هناك مقاومة حية على أرض الواقع.
السلطة الفلسطينية مثل الحصان الميت على حد وصف عمايرة، اتخذت موقف المتفرج منذ سنوات طوال، وتعيد وتكرر وتجتر مرارا كل خطابات التنديد والتصريحات ومطالبات الحماية الدولية من المجتمع الدولي، والمجتمع الدولي لا يفعل شيئا، بل أن كل ما يجري الآن بمباركتها حسب ما قال عمايرة.
الولايات المتحدة أعطت الاحتلال الضوء الأخضر " من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها" ولذلك فإن الفلسطيني يعرف أنه بات أعزل، من سلطته، واتفاقياته، ومن تنديدات العالم العربي والدولي، وبقي في المعركة وحيدا وعليه أن يراهن على صموده فقط، وهذا ما تفعله جنين كل يوم منذ مائة عام.