لم تمضِ سوى الساعات الـ24 الأولى على عملية حوارة البطولية التي أسفرت عن مقتل مستوطنين إسرائيليين، حتى استيقظ بنيامين نتنياهو وحكومته الفاشية على عملية أخرى في مدينة الخليل أدت إلى مقتل مستوطنة إسرائيلية، ما شكّل ضربة مؤلمة للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وتطوّراً نوعياً في الفعل الفلسطيني المقاوم في الضفة الغربية من حيث التكتيك والتخطيط والتنفيذ، في ظاهرة هي الأصعب والأكثر تعقيداً أمام منظومة الاحتلال الإسرائيلي الأمنية التي عجزت عن إيجاد حل لها، باعتراف علني من بنيامين نتنياهو شخصياً بأن العمليات الفردية تشكّل تحدياً أمنياً كبيراً لـ"إسرائيل" يصعب إيجاد حل لها.
العمليات البطولية الفردية أضحت تؤرق "إسرائيل" أكثر من العمليات المنظّمة، بعدما فشلت المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية في وقفها، إذ يكون التخطيط والتنفيذ من خلال مقاوم أو مقاومَين على الأقل. هذه الدائرة الضيّقة من التخطيط تعجز كل التقنيات العسكرية والتكنولوجية الإسرائيلية عن الحد منها أو مواجهتها.
سجّلت الإحصائيات الرسمية في "إسرائيل" مقتل 34 مستوطناً إسرائيلياً في الأشهر الثمانية الأولى من العام الجاري خلال عمليات إطلاق نار ودهس للمقاومة الفلسطينية. أما في العام السابق 2022، فقتل 33 مستوطناً إسرائيلياً. ومنذ بداية موجة العمليات من آذار/مارس 2022 حتى آب/أغسطس 2023، قتل67 إسرائيلياً، وهو رقم قياسي منذ الانتفاضة الثانية.
هذه الإحصائيات تشير إلى ارتفاع واضح في تصاعد العمليات الفدائية الفردية ضد المستوطنين، وتعكس في الوقت نفسه فشلاً في تحقيق وعود الأمن الانتخابية التي أطلقها ائتلاف نتنياهو وبن غفير وسموتريتش لجمهورهم من المستوطنين.
توقيت تكرار عمليات إطلاق النار البطولية يعطي نتيجة واضحة بأن مؤشر عمليات المقاومة في صعود، وسيزداد خلال الفترة المقبلة. هذه الموجة من تصاعد وتيرة العمليات يعكس نهضة المقاومة واتخاذها قرار المواجهة والردّ بلغة الرصاص على خطة حسم الصراع التي قدّمها الوزير المتطرف سموتريتش، في رسالة واضحة مفادها أنَّ خطة حسم الصراع ستكون لمصلحة الفلسطينيين ومقاومتهم، وليس العكس، وأن ارتفاع منسوب الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين ومقدّساتهم سيؤدي إلى مزيد من التصعيد وفعل المقاومة.
عملية الخليل الأخيرة تختلف عن سابقاتها، سواء في توقيتها أو مكان تنفيذها، وتمثّل تطوراً نوعياً في فعل المقاومة، وتشكّل قلقاً كبيراً لـ"إسرائيل" على أكثر من مستوى، سواء على صعيد انتشار هذا النوع من العمليات الفردية الذي لم يعد مقتصراً على شمال الضفة الغربية، بل هو آخذ في التوسّع إلى مناطق فلسطينية محتلة، كمدينة الخليل التي تعد مركزاً كبيراً للمستوطنات الإسرائيلية، أو حتى على صعيد الدقة في التخطيط والتنفيذ والانسحاب، وهو ما يشكّل تهديداً أمنياً جديداً لـ"إسرائيل" أمام قدرة المنفّذ على عودة الكرة مرة أخرى في تنفيذ عملية إطلاق نار جديدة ضد المستوطنين و"جيش" الاحتلال.
حكومة نتنياهو بعد عمليتي حوارة والخليل الأخيرتين أصبحت خياراتها ضيّقة جداً في مواجهة هذا النموذج من العمليات المقاوِمَة، في وقت باتت "إسرائيل"، بمكوّناتها السياسية والأمنية، تعيش أزمة داخلية عميقة وانقساماً سياسياً حاداً غير مسبوق، لتطفو على السطح ظاهرة تصاعد العمليات الفردية.
يأتي هذا في وقت باتت تتحدّث عن تحدٍ أمني ليس مرتبطاً بمنفّذي هذه العمليات فحسب، بل أيضاً بمن تسميهم وفق رؤيتها الأمنية الإسرائيلية معضلة الذئاب المنفردة الذين يصل عددهم إلى أكثر من 250 ألف فلسطيني موجودين في الضفة الغربية المحتلة يمكن أن يقوموا بتنفيذ عمليات مشابهة تماماً لعملية الخليل وحوارة، في ظل عدم وجود استراتيجية أمنية إسرائيلية للتعامل مع هذه الظاهرة التي باتت تؤرق قادة الاحتلال.
ثمّة دلالات مهمة يمكن قراءتها بعد عملية الخليل البطولية الأخيرة، أبرزها النجاح في توسّع بقعة العمليات من حيث الجغرافيا، فهذا معناه أن كل المدن الفلسطينية المحتلة سيكون لديها الاستعداد لتنفيذ عمليات مشابهة، وأنّ وقوع عملية في الخليل يعني النجاح في القدرة على تجاوز كلّ العقبات والتحديات التي كانت قائمة أمام المقاومة، سواء كانت أمنية أو غيرها من العقبات اللوجستية.
نجاح عملية الخليل يفضح هشاشة الأمن الإسرائيلي وفشله الذريع والقائم على مرتكزات الردع والحسم. فعلياً، "إسرائيل" فقدت الردع تماماً، سواء أمام معادلات الرعب التي فرضتها المقاومة في قطاع غزة، أو حتى أمام العمليات الفردية المتصاعدة في الضفة الغربية والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، وردود الأفعال ما هي إلا وصفة للعجز الإسرائيلي الذي بات يهيمن على قادة الاحتلال بعد فشلهم في النيل من المقاومة في مخيم جنين.
هذه الحالة تعكس قمة الفشل الإسرائيلي الذريع في مرتكز الحسم في تنفيذ عمليات عسكرية واسعة النطاق في مدن الضفة المحتلة، يمكن أن تشعل ساحات
أخرى عليها، كساحة قطاع غزة وباقي الساحات الفلسطينية، في وقت تعيش أزمة داخلية نتيجة إقرار التعديلات القضائية، وهي غير قادرة على فتح مواجهة متعددة الساحات.
العجز والارتباك في الموقف الإسرائيلي هما سيّدا الموقف إزاء قدرة المقاومة على تنفيذ عملية الخليل البطولية التي شكّلت ضربة للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية، والتي وقعت في مربّع أمني قريب من مركز قيادة جيش الاحتلال، وقرب كبرى تجمّع مستوطنات الخليل المسماة "كريات أربع".
مثل هذا النوع من العمليات يجسّد صورة متكاملة للمشهد المقاوم مع مخيم جنين ونابلس، ودخول الخليل على خط العمليات البطولية معناه أن ثمناً باهظاً وكبيراً بانتظار الاحتلال ومستوطنيه، وأن وقوع أي عملية فدائية جديدة سيربك حسابات "إسرائيل" وقادة "جيشها" أكثر.
حجم الصدمة والهستيريا التي تولّدت بعد وقوع عملية الخليل الأخيرة جعل نتنياهو ووزير أمنه يؤآف غالانت يطلقان اتهامات مباشرة تجاه تحميل إيران المسؤولية المباشرة عن دعم العمليات البطولية وتمويلها، وهو ما يعكس حجم الارتباك والتخبّط الذي وصل إليهما قادة الاحتلال الإسرائيلي.
والهدف من وراء ذلك التنصّل من أي تعهّد فوري يلزم الائتلاف الإسرائيلي بإيجاد حل جذري لحال التهديد والوضع الأمني المتردّي في الضفة الغربية المحتلة نتيجة العمليات الفردية، كما أنه يعد هروباً إلى الأمام من الهجمة الشرسة التي بدأ يشنها قادة الأحزاب الإسرائيلية على المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، واتهامها بالعجز والفشل والتقصير في توفير الأمن للمستوطنين.
العقلية الأمنية الإسرائيلية التي تعيش في مأزق داخلي وتحدٍّ أمني كبير ستعمل على الانتقام والرد على هذا النوع من العمليات البطولية للتغطية على فشلها الأمني. ووفق قراءة المشهد وتداعيات ما بعد تنفيذ عملية الخليل، فإن تصريحات قائد المنطقة الوسطى في "جيش" الاحتلال ووزير الأمن الإسرائيلي يؤآف غالانت تحمل في طياتها رغبة كبيرة وتهديداً بنية الانتقام.
أعتقد أن العين الإسرائيلية هذه المرة ستكون على خارج فلسطين، إذ إنّ أصابع الاتهام، وفق رؤية الاحتلال الإسرائيلي، كانت تشير إلى أن من يوجّه ويموّل هذه العمليات التي أثبتت قدرتها على ضرب المنظومة الأمنية الإسرائيلية في مقتل هُمْ من خارج فلسطين.
أما الحديث عن ردّ وانتقام داخل الأراضي المحتلة، فقد استنفدت "إسرائيل" قوتها، وأقصى ما يمكن أن تقوم به هو ملاحقة منفّذي العمليات وفق جهد استخباراتي تقوم به. ومخيم جنين أكبر شاهد على ذلك، فقد فشلت "إسرائيل" فشلاً ذريعاً في وقف العمليات، بل إن جرائمها المستمرة ساهمت بشكل كبير في تصعيد وتيرة المقاومة أكثر من ذي قبل، وتبقى المقاومة هي كلمة الفصل في كلّ وقت وحين.