لم يكن انسحابا (إسرائيليا) أحادي الجانب كما روجت له دولة الكيان الغاصب، بل كان انتصاراً مدوياً، وإنجازاً كبيراً لشعبنا ومقاومته التي أجبرت العدو على الهروب من قطاع غزة، بفعل ضربات المقاومة الباسلة، التي أذاقته ضريبة عدوانه وجرائمه، إنجاز سُطّر بدماء شهداء شعبنا وتضحياته.
فشارون المأفون عراب التغول الاستيطاني الذي سوّق لخطة الانسحاب من غزة داخل المجتمع الصهيوني، برسمه سياسات استيطانية توسعية في الضفة والقدس المحتلة، تصطدم اليوم بصمود شعبنا الأبيّ ومقاومته الباسلة التي تلاحقه وتضربه في القدس المحتلة ورام الله وطولكرم ونابلس وقلقيلية والخليل وكل مكان من أرضنا.
فتحرير غزة وطرد المحتل منها في الثاني عشر من سبتمبر عام 2005، شكّل نقطة تحول مهمة في تاريخ قضيتنا ومشروعنا الفلسطيني، ونافذة أمل بأن تحرير باقي أرضنا المحتلة ممكن، فإرادة الشعوب أقوى وأعلى من جبروت الغزاة المحتلين، وحرية شعبنا محتومة بوعد إلهي، وسنن التاريخ التي سطرت صفحات عظيمة من انتصارات الشعوب ضد الغزاة والطغاة.
وشكّل اندحار الاحتلال عن قطاع غزة، نقلة نوعية على صعيد تطور قدرات المقاومة الفلسطينية وتعاظمها، ونجحت المقاومة في توفير بيئة حاضنة للعمل المقاوم، وتمكنت من تطوير إمكاناتها وقدراتها العسكرية، وهو ما مكنها من الصمود والمواجهة في الحروب المتتالية على قطاع غزة، وصولا لمعركة "سيف القدس" في مايو عام 2021، التي جابت فيها صواريخ المقاومة كل فلسطين المحتلة.
ويؤكد نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الشيخ صالح العاروري "أن النقلات النوعية للمقاومة تأتي دائما من خارج حسابات الاحتلال ورغما عنه، كما أن نموذج تطور المقاومة في غزة يشكل حالة إلهام بأن الإرادة الفلسطينية لا تعرف الاستسلام أو الانكسار، فالمقاومة في الضفة ستواصل درب التطوير الذي سيصل حتما إلى نشوء حالة مقاومة قادرة على مواجهة الاحتلال".
سلاح جديد
أمام سياسة الحصار وتجفيف المنابع لم يكن بدّا للمقاومة سوى ابتكار الأساليب والأدوات التي تمكنها من مواجهة الاحتلال ومفاجأته كما كل يوم بأسلوب وطريقة جديدة لم يألفها من قبل، فابتكرت سلاح الأنفاق الاستراتيجي والذي تمكنت المقاومة خلاله من استهداف المواقع العسكرية الصهيونية، كما كانت صاحبة السبق في صناعة أول صاروخ فلسطيني عام 2001م، والذي طورته ليصبح اليوم السلاح الاستراتيجي للمقاومة والرعب الأبدي للاحتلال وقادته.
ونفذت القسام عبر سلاح الأنفاق الاستراتيجي العديد من العمليات التي قلبت معادلة الصراع مع الاحتلال ودفعته للهروب من غزة، لعل من أبرزها عملية موقع ترميد في 26 سبتمبر عام 2001، وعملية موقع حردون في 17 ديسمبر عام 2003، وعملية براكين الغضب في الثاني عشر من ديسمبر2004.
خسائر فادحة
وخلال سنوات انتفاضة الأقصى، كبدت المقاومة الفلسطينية الاحتلال الصهيوني خسائر بشرية ومادية كبيرة، ونفذت المقاومة وعلى رأسها كتائب القسام 68 عملية ما بين إطلاق نار وتفجير آليات واقتحام للمغتصبات، أدت إلى مقتل 135 صهيونيًا، بينهم 106 من الجنود والضباط، و29 مستوطنًا، بينما أصيب العشرات منهم بجراح.
وشهد عام 2004م، وهو العام الذي سبق الاندحار عن قطاع غزة، أعلى نسبة لعدد القتلى في صفوف جنود الاحتلال، إذ قُتل فيه 46 جنديًا، ما جعل وجود الاحتلال في غزة وقربه مكانيًا من المقاومة الفلسطينية أمرًا مستحيلاً.
وبفعل ضربات المقاومة أصبحت 25 مغتصبة جاثمة على أرض القطاع أثرًا بعد عين، ولطالما كانت كالغدد السرطانية تجزئ محافظات القطاع ومناطقه وتشل تحركات أهله وتنقلاتهم.
ورغم استهداف الاحتلال لحركة حماس وقادتها منذ نشأتها إلا أنها قادت المقاومة نحو الطريق الصحيح، وباتت حامية لها، وشكلت سدًا منيعًا أمام كل محاولات سحب سلاحها واستئصالها التي كانت تمارسها السلطة الفلسطينية والأجهزة الأمنية آنذاك.
وبات الاندحار عن غزة نقطة تحول كبيرة في تطور أداء المقاومة وسلاحها، واتساع معركتها مع العدو، حتى أضحت تبدع في التصدي للعدوان الصهيوني على قطاع غزة، وظل شعبنا الصامد الصابر ظهرًا حاميًا وداعمًا لها رغم الجوع والحصار، فاندحار الاحتلال تحت ضربات المقاومة عدّته حركة حماس إنجازاً وطنياً ومقدمة لتحرير باقي الأراضي المحتلة.
تعاظم المقاومة
مكّن الاندحار الصهيوني من قطاع غزة، المقاومة الفلسطينية من حرية العمل وتطوير قدراتها المختلفة وتصاعدها، إذ عملت المقاومة على إعداد تكتيكات جديدة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
هذا التطور مكّن المقاومة من الصمود في مواجهة عدوان الاحتلال الصهيوني المتواصل على شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة، كما مكّنها من إفشال أهداف الاحتلال في القضاء على المقاومة الفلسطينية، والتي غدت اليوم كابوساً يؤرق قادة الاحتلال.
وهذا ما أكده مراراً رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" إسماعيل هنية، أن المقاومة باتت أقوى أضعافاً مما كانت عليه، وأن غزة محرمة على الاحتلال، وستمارس دورها الجهادي والوطني من أجل أن تصبح الضفة والقدس وبقية فلسطين محرمة على الاحتلال أيضاً.
في الوقت الذي لم ينحصر تطور المقاومة وتعاظمها في غزة فقط، بل توسع اليوم مداه ليشمل مناطق ومدنا مختلفة من الضفة المحتلة، التي "تحقق فيها المقاومة اليوم نقلات نوعية في ظل ظروف وإمكانات صعبة نتيجة الحصار الأمني والعسكري الذي يفرضه الاحتلال على المناطق الفلسطينية وأدوات تطوير المقاومة، لكن إرادة شباب الضفة صلبة وقوية، ونرى اليوم أن الأجيال الشابة من أبناء المقاومة تبذل جهودا في عمليات التصنيع والتطوير"، وفق ما يؤكده الشيخ صالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس.
ويبيّن العاروري أن محاولة تطوير العمل المقاوم تشكل أولوية لدى حركة حماس ومعها فصائل المقاومة، والوصول للقدرة على إيذاء العدو واستنزافه يعتبر هدفا أساسيا لإجباره على الاعتراف بحقوقنا الوطنية والسياسية، لذلك تعتبر مهمة تطوير المقاومة لتكون فاعلة ومؤثرة غاية كبرى يجب أن تنخرط فيها جميع القدرات والطاقات، بما فيها الوصول إلى أن يكون موضوع الصواريخ مؤثرا وفاعلا.
وبعد مرور 18 عاما على اندحار الاحتلال عن غزة، ستبقى المقاومة على امتداد خارطة الوطن من غزة إلى القدس ونابلس والخليل ورام الله، وجنين القسام، مشرعة وبالأدوات والأشكال كافة، تراكم وتعاظم من قوتها وصولا لمعركة التحرير ودحر الاحتلال عن فلسطين كل فلسطين.