كلّ صاروخ يسقط على رؤوس أهالي غزّة، أميركا شريكة ومستثمرة فيه؛ فبالنسبة لها، فإنّ الغزيّين ليسوا سوى وقود في حربها العالميّة في مواجهة الصين، كما تستثمر في دماء الأوكرانيّين في حربها العالميّة.
إنّ همّ أميركا الفوريّ هو تحرير الرهائن الأميركيّين في غزّة، وحديثها عن المساعدات الإنسانيّة ليس بريئًا ولا رحمة بالغزيّين، وإنّما تتمنّى أن تقابله حماس بتحرير مواطنيها أوّلًا، وكبار السنّ والمرضى وصغار السنّ. تخيّلوا أن تنشر حماس أو فصيل آخر فيديو لأسير أميركيّ يحمّل بايدن المسؤوليّة عن الحرب ومصيره، سيكون ذلك بمثابة تشييع سياسيّ لبايدن عشيّة الانتخابات الرئاسيّة، وسيجلس إلى جانب نتنياهو في نادي المحالين للتقاعد بفعل السابع من أكتوبر.
المعادلة الفوريّة إذًا هي كالآتي: حياة الرهائن مقابل تحسين شروط نزيف الغزيّين، تحت مسمّى المساعدات الإنسانيّة. لا بأس في تحرير حماس الأسرى المدنيّين، من الأميركيّين والإسرائيليّين والنباليّين وغيرهم. والمساعدات الإنسانيّة ضرورة عاجلة.
ألغت مصر والأردنّ والسلطة الفلسطينيّة انعقاد القمّة مع بايدن. لم يكن ذلك بفعل الغضب الشعبيّ في أعقاب مجزرة المستشفى الأهليّ المعمدانيّ فقط، بل لإدراكها خطورة ما يحمل معه بايدن من تصوّر عام لمشروع إقليميّ يقوم على تهجير الغزيّين وتدمير غزّة "لتنعم بالسلام". إنّهم يريدون بالتهجير والتدمير والقتل الجماعيّ، تحويل الدول العربيّة "السنّيّة المعتدلة"، بما فيها السلطة الفلسطينيّة، إلى قوّات حرس حدود لإسرائيل في غزّة، بعد تقليص مساحتها وسكّانها. لا أحد يقبل ذلك، أو مستعدّ لمناقشة ذلك عربيًّا. على الأقلّ في الوقت الراهن. أراد بايدن من تلك القمّة، إدانة عربيّة أميركيّة للإرهاب وقتل المدنيّين وغير ذلك من الوعظ الغربيّ.
أميركا ليست مصّاصة دماء، بل هي أكبر مستثمر فيها، وترى في الحروب فرصة للاستثمار، فمشاركتها في قرار الحرب وأهدافه على غزّة، مردّه أنّها تريد "بيغ ديل"، إنّها تريد استثمار الغضب والجنون الإسرائيليّين، ودماء الإسرائيليّين أيضًا، لإعادة بلورة قطب لها في المنطقة يمتدّ من السعوديّة مرورًا بمصر وإسرائيل وصولًا إلى المغرب. تريد لهذا القطب أن يبنى على ركّام وعظام الغزيّين. تقول للإسرائيليّين، خلّصونا من حماس، ولكن تساءلوا عن اليوم التالي، واليوم التالي ليس المقصود به إعادة إعمار غزّة، بل الحديث عن "حلّ دولتين" و"عمليّة سياسيّة" مع الفلسطينيّين للتخلّص من وجع رأس اسمه غزّة، لكنّ هدفه المنطقة العربيّة وتجنيدها في الحرب العالميّة الأميركيّة ضدّ الصين ومن معها، روسيا وإيران كقوتين إقليميتين.
جو بايدن ليس خرفًا، بل هو ابن أميركا الحرب الباردة، وحديثه عن القيم الديمقراطيّة والحرّيّة والسلام كذب ونفاق، فأميركا كانت وما زالت تحارب حركات التحرّر والديمقراطيّة في العالم، ودعمت وتورّطت في حروب أهليّة في أميركا اللاتينيّة، وفي أفريقيا وفي آسيا، وخرجت مهزومة في معظمها.
بايدن في نظر الإسرائيليّين هو ذلك الجدّ العطوف والحنون، إلى حدّ أنّه يخنق نتنياهو في عطفه، وبذلك يكبّل جنونه، ويشارك في قرارات الحرب. الحقيقة أنّ بايدن (ومعه بلينكن) يبدو كأنّه جثّة خرجت توًّا من ثلّاجة الموتى، ودرجة الحرارة فيها مثل سيبيريا، ولا دماء في عروقه.
يقول أحد الرؤساء السابقين لشعبة الاستخبارات العسكريّة الإسرائيليّة (أمان)، إنّ ما حصل في السابع في أكتوبر هو نتيجة تآكل الردع الإسرائيليّ أمام العرب والمنطقة عموما، وإنّ استعادة هذا الردع هو بفضل حاملة الطائرات الأميركيّة، ووقوف بايدن إلى جانب إسرائيل بكلّ قوّة.
في الادّعاء أعلاه إشكاليّة: قالت الحركة الصهيونيّة إنّ إقامة دولة إسرائيل وجيشها القويّ هدفه ألّا يكون مصير اليهود بيد الآخرين بعد الحرب العالميّة الثانية والمحرقة النازيّة، لكنّ ما يقوله الجهبذ أعلاه، يستنتج منه أنّ مصير إسرائيل وردعها للعرب وإيران ليس مرتبطًا فقط بالتحالف الأميركيّ الإسرائيليّ المتين والأبديّ، بل بالتدخّل الأميركيّ المباشر في الحرب وإرسال أكبر حاملة طائرات في العالم. أهذا معقول؟ ألا يعني ذلك أنّ مصير اليهود وإسرائيل وردعها معلّق بالمصالح الأميركيّة؟
التركيز حدّ الإفراط في الحديث والتحليل للعدوان الإسرائيليّ البرّيّ، وسيناريوهاته وفرصه وتكاليفه، يهمل أمرًا مركزيًّا وأساسيًّا في هذه الحرب:
إذا كان هدف الحرب هو القضاء على حماس، عسكريًّا وسلطويًّا، فإنّ من المنطقيّ أن يكون التركيز الإسرائيليّ الأساسيّ في "صيد" رؤوس قادة حماس في غزّة، وتحديدًا القيادة العسكريّة، من دون عمل بري، لكن في موازاة الاستعداد للعدوان البرّيّ، فهدف العدوان البرّيّ ليس التدمير فقط، فالطائرات تقوم بهذه المهمّة، فقد تكون المهمّة أوّلًا السيطرة على مناطق في غزّة، وتحويلها إلى شريط أمنيّ ولو مؤقّتًا وتدمير قدرات حماس القتالية.
هدف الحرب هو القضاء على حماس، ولتحقيق هذا الأمر، بالإضافة إلى "صورة النصر"؛ فالمطلوبون هم قادة حماس في غزّة، أحياء أو أمواتًا، لذلك فإنّ التركيز الإسرائيليّ والمجهود الأساسيّ هو تحديد مكان هؤلاء، والقيام بعمليّة عسكريّة لاعتقالهم أو قتلتهم، بإنزال جوّيّ أو بعمليّة برّيّة محدودة. هذه هي الأولويّة.
ادعموا النقب
يعيش أهالي النقب حالة إنسانيّة صعبة، فهم متروكون لمصيرهم، فبالإضافة إلى نحو 18 ضحيّة قتلوا منذ السابع من أكتوبر، ثمّة مفقودون أو محتجزون في غزّة، وهم يتعرّضون أيضًا للملاحقة السياسيّة والأمنيّة، ومنهم معتقلون. هؤلاء يستحقّون كلّ الدعم والتضامن في هذه الظروف، ودورنا في وسائل الإعلام والصحافة نقل معاناتهم وظروفهم، ومهما فعلنا سنبقى مقصّرين.
بالأمس جرى التحريض عليهم بشكل دمويّ من قبل مراسل عسكريّ إسرائيليّ، قال إنّ عشرين أو أكثر من مقاتلي حماس ما زالوا في النقب والجنوب، ومن الوارد أنّهم وجدوا من يأويهم في النقب وقراه مسلوبة الاعتراف. هذا "الصحافيّ المخضرم" عوضا عن أن يهتمّ بنقل ما يتعرّض له أهالي النقب، كما يهتمّ بنقل معاناة سكّان الجنوب، يقوم بالتحريض الدمويّ على أهالي النقب، بجعلهم مستباحين، ليس من قوّات الأمن فقط، وإنّما من المدنيّين المسلّحين في الجنوب، وتحويل كلّ عربيّ هناك إلى معرض اشتباه وهدف "أمنيّ مشروع".
وفي سياق الحديث عن الدعم والتضامن، يحاول جماعة المال الأميركيّ الصهيونيّ في "المجتمع المدنيّ"، تشكيل أطر بديلة للأطر الوطنيّة الجماعيّة، مثل لجنة المتابعة والجمعيّات الوطنيّة، ويطلقون مشاريع موازية ذات أجندات خارجية لصرف الميزانيّات والتوظيف تحت شعار "حالة الطوارئ". هؤلاء طارئون ويحملون أجندات خارجية، تحديدا من شبّه حماس بداعش، وعلى لجنة المتابعة اليوم قبل الغد، نبذهم ولفظهم ورفض أيّ تعاون مع مثل هولاء مهما كانت قدراتهم أو حجم أموالهم، فمواقفهم وأجنداتهم الخارجية هي عبء على المتابعة وعلى مسيرتها الوطنية، فمثل هؤلاء يسمسرون بمعاناة الناس في زمن الحرب، ويشرّعون الحرب على غزّة بمواقفهم وتبنّيهم للدعاية الإسرائيليّة. هؤلاء طارئون على شعبنا، ولا يمكن أن يكونوا منقذين له في الطوارئ. هؤلاء سماسرة بمعاناة الناس، وقد سمسروا من قبل بأصوات وثقة الناخبين العرب، ولا مكان لهم في المتابعة ولجنة الرؤساء.
أخيرًا، كما بدا بايدن وكأنه جثة خارجة للتوّ من ثلّاجة الموتى، فإنّ مشروعه في المنطقة كذلك. لن يعيش.