لم تكن صورة المرأة الفلسطينية إلا امتدادا للمعاناة، ثم امتدادا للصبر، حتى تضرب مثالا عجزت عن تفسير جلالته كثير من المتحدثات والمتحدثين عن قوة المرأة التي سارت جنبا إلى جنب مع رجال قاوموا ونساء مقاومات.
في هذ الحرب ضربت النساء نموذجا مغايرا للثبات، كانت إيناس هنية واحدة منهن، زوجة الشهيد ابن الشهيد إسماعيل هنية قائد حركة حماس ، فكانت منذ اللحظة الأولى تحمل ثباتها وجلدها لتنعى قائدها "عمها المرحوم".
ولم تكن تجربة إيناس هي خسارة والد زوجها فقط، بل أنها خسرت زوجها وبناتها شهداء في استهداف سيارتهم قبل ثلاثة أشهر في معسكر الشاطئ بغزة، ليدفنوا في وداع ناقص بدون أن تستطيع احتضان أجسادهم الممزقة.
بعدها بأشهر قليلة خرجت إيناس لتنعى وفاة عمها إسماعيل هنية، وتوصي بناتها في السماء بأن يتحضرن لاستقباله، وهي ترى بعينها الحقيقة القوية للشهيد الذي تتوسع له طرقات السماء ليصعد ويلتحق بالركب، وتزيد من ثباتها فتقول إنها بقيت مع بناتها في غزة، رغم أنها كانت تستطيع الخروج، لأنها من الناس وستدفع نفس الثمن الذي دفعوه بكل حب وإقدام.
وبالأمس ودعت فلسطين وفاء جرار وهي زوجة القيادي في حركة (حماس) عبد الجبار جرار، وأم لأربعة أبناء، وهي مؤسسة رابطة أهالي الشهداء والأسرى في جنين ومنسقتها. وتُعد من الوجوه المعروفة في المحافظة والحاضرة في بيوت عزاء الشهداء وفي الوقفات المطالبة بالإفراج عن الأسرى، والتي يعرفها أهالي الأسرى والشهداء، ويشهدون على نهاية مؤلمة بدأت ببتر قدميها، ثم اعتقالها وهي جريحة، ثم استشهادها مباشرة بعد الإفراج عنها.
لم تغب وفاء جرار، لأن ابنة لها أسمتها زيتونة ورثت صوتها، ليكون لها من اسمها نصيب، متشبثة بالأرض، وقفت لتودع والدتها قائلة: "عرفت أن رجليها بترتا فقالت ثلاث جمل: الحمد لله، أنا صابرة، والله يثبتني، نجحت باختبار الدنيا وباختبار الجنة، يا أم الشهداء مع السلامة، الله يصبر أبوي، راضيين يارب، أستحلفك بالله أن تطلبيني عندك".
ثم واقفة شامخة تهتف في جنازة والدتها: "نبتغي رفع اللواء، وليعد للدين عزه، ولترق منا الدماء، والله لنتحرر، والله نفديك يا الله".
ولعل النموذج الأقوى على مجابهة الوجع، هو صبر الكاتبة الشاعرة الدكتورة آلاء القطراوي، التي فقدت أبناءها دفعة واحدة، بعد أن حاصرهم الاحتلال ولم يسمح لأحد أن ينتشلهم من تحت الركام لأربعة أشهر. واصفة وجعها بسطر واحد: "لم يبق في ظهري موضع من دون أن تنزّ منه الدماء، لكنني ما زلت أسير نحوك يا الله، لتُحبّني."
هكذا ثم أكملت آلاء، وكانت قصتها بحد ذاتها إبادة، كافية لتتقوقع أم ثكلى على نفسها مع حزنها، ولكنها أكملت المسير، وكتبت بكل ما لديها من أقلام، قصص الأطفال والأمهات الثكالى اللواتي لا صوت لهن، فكانت هي المرآة التي عكست كل أصوات القهر.