أحلام وفاء عليان المدفونة تحت ركام الحرب

غزة- متابعة الرسالة نت

تحتضن وفاء عليان حفيدتها الوحيدة الناجية برفقتها من تحت الأنقاض وقد فقدت جميع أبنائها وعائلتها، وهي أستاذة في الصحة النفسية، أم لخمسة أبناء، كانت حياتها تسير بروتيني يتمنى أهالي القطاع بأن يعود إلى سابق عهده.

لم تكن الحياة نموذجية ما قبل السابع من أكتوبر في ظل الحصار المفروض على غزة، لا تنقل ولا سفر، كان الأبناء يحلمون كثيرا بالسفر إلى الخارج لإكمال تعليميهم، لكن الحياة مليئة بالرضى، بالكفاح لأجل بناء الأسرة، التي دفنت كل أحلامها تحت الأنقاض.

تفانت وفاء في تحقيق الأحلام، الابن الأكبر تخرج من الجامعة قسم التكنلوجيا، متفوق وقد عمل معيدا، كان مجد الفرحة الكبرى، الذي تتحدث عنه وفاء كابن ناجح ومكافح، ثم أتت ديمة لتتميز أيضا في دراسة العلوم، لتحقق حلمها، كانت تطمح بأن تكون رئيسة للبلدية، فتخصصت بدراسة البيئة، سافرت إلى لندن ودرست الماجستير هناك، ثم توظفت في منظمة الصحة العالمية .

أما ابنتها الثالثة لين فقد درست علم النفس لتكون مرآة أمها التي نجحت في التأثير عليها، واشتهرت بالفن والرسم على ورق شجر العنب.

الصغيرة تخرجت من قسم التجارة الإنجليزي، وكانت مجتهدة حتى اللحظة الأخيرة ما قبل الموت، ثم المدلل قسام، حبيب أمه كما تقول وفاء، علاقتي فيه قوية، وهو آخر الأبناء والأقرب:" كنت أحلم بأن ينتهي من دراسة الثانوية العامة وأن يدرس الطب، مثل والده".

 ثم تدمرت الأحلام في لحظة واحدة، بدأت بالنزوح من مدينة غزة، وكانت العائلة تعلم أن هذه لن تكون حربا عادية، وبأنهم ككل عائلة في غزة سيدفعون ثمنا كبيرا، ربما سيخرجون من بيتهم، أو يأتي أحد للجوء عندهم، وربما يفجعون بأحد، أو يفجع أحد فيهم، لكن في أسوأ كوابيسها لم تكن تتوقع أن تمسح العائلة كلها، بذكرياتها، وأيامها، وبيتها الواسع، وبكل الأحلام التي رسموها وحققوها.

خمس وأربعون يوما من الحرب قضتها العائلة في منزلها، خمسون فرد لجأوا معا في ذلك المنزل وسط القطاع،  قسمت منزلها للاجئين لديها، بناتها المتزوجات أتين للإقامة في منزلها، وعائلتها، والديها وأخوتها وزوجاتهم، أقارب زوجها،  وكانوا يقسمون المهام ليتغلبوا على هموم الحرب، على الجوع وندرة الطعام، وندرة المياه، كانت تعتقد أن بيتها آمن، فدعت عائلتها وبناتها للجوء في بيتها، وفي اللحظات الأخيرة لقصف البيت، كانت الشمس قد غابت، وكان الأولاد عائدون من انتشال جثامين عائلة قريبة قد قصفت في اليوم السابق.

صلت العائلة العشاء جماعة، جلسوا وتناولوا بعض الطعام، وكل منهم ذهب مبكرا للنوم، وهو يحلم، يحاول إقناع نفسه بأن الحياة ستستمر رغم الموت المحيط، وفي الرابع والعشرين من نوفمبر فجرا قصف البيت.

جاء دور العائلة في الابادة، فتحت وفاء عليان عينيها، شعرت بأن هناك ثقلا فوق جسدها، لم تجد سوى الظلام الحالك، تألمت، حاولت التنفس ولم تستطع، وبدأت تنادي على أبنائها، ثم فقدت الوعي، وحينما استيقظت وجدت نفسها على السرير في المستشفى.

كانت ابنتها الصغرى قد خرجت يدها من تحت الردم وحركتها، فانتبه الجيران، وقالت لهم: ماما جمبي طلعوها، ولم تكن وفاء ترد، كانت ابنتها تنادي عليها وهي بجانبها تحت الردم، ولم تكن ترد.

في المشفى أدركت وفاء عليان بأن الحياة لم تعد بخير، ولن تعود، ابنتها إلى جانبها وجهها متورم، وهي لا تستطيع التنفس، بسبب كسر في الضلع وخلع في الكتف، شعرها محروق، وملابسها مليئة بالتراب، ثم بدأت تسأل عن عائلتها، أحضروا حفيدها عبد الرحمن، كان يصرخ مكسور الحوض، حاولت السير تجاهه حتى تطمئنه، لم تتجرأ في كل تلك المشاهد أن تسأل عن الناجي من هذه المذبحة، فهمت لاحقا حينما بدأت تتوارد أخبار الراحلين تباعا.

 ثم طلبوا منها التعرف على الشهداء :" أختي نسرين، سارة ابنة ابني مجد، هذا إبراهيم ابن اختي، هذا ابني مجد، هذه ابنتي الكبرى، هذا ابن اخي، هذا أخي، هذه زوجاتهم، هذا وهذا وهذا، سلسلة من الموت لا تريد أن تنتهي، جرفت كل العائلة، ولكنها تركت وفاء تردد" الحمد لله، الله أعطانا بدون حول لنا ولا قوة، ثم أخذ أمانته". 

خمسون شخصا، مابين ابن وابنة وأحفاد، وزوج وجد وجدة، وأخت وأخ وأبناؤهم.

"قطع لحم ، أجساد غير مكتملة، زوجة الأخ تحمل ابنها في حضنها، أم آية زوجة مجد كانت قد طارت بعيدا عن البيت مائة وخمسين مترا، رأيت ابنة أخي لبنى، شعرها طويل، قصوا شعرها حتى يستطيعوا إخراجها، موسى ابن أختي أيضا عرفت وجهه، أمي وأبي كانوا أشلاء، تهت بين الصور، المكتملة والناقصة، خارت قواي وأصابني هبوط حاد في الضغط وأنا أتعرف عليهم" .

وتضيف:"في اليوم التالي أخرجوا ابنتي ديمة، رأيتها، مسحت الدماء عن وجهها، زوجها إلى جانبها مليء بالدماء، حفيدي ستة أشهر، كنت أسميه "الغالي" كنت أحبه، وكان معي طول الوقت في الليلة السابقة، أحمله في يدي، قبل أن أسلمه لأمه تلك الليلة حتى ينام".

هناك جثامين خرجت في اليوم الثالث والرابع، لم نودعهم وداعا لائقا، لم يسمحوا لنا أن نودع جثامين خرجت متأخرة، أمي لم نجد لها جثمانا، وجدنا يدها فقط، ابنة أختي وطفليها لم نجدهم.

وتكمل وفاء بثبات لا يخلو من القهر:" بدأت أسأل عن الأسماء التي لم يجدوا لها جثمانا: ابني قسام، عز الدين  أخي، ستة من أقاربي، دفنوهم دون مشفى، لأنهم كانوا متحللين، دون وداع دفنوا حبيبي ابني الأصغر قسام، سقطت الأمطار في اليوم الأخير ما قبل الهدنة وكشفت عظام أحدهم، لم نعرف من هو، دفناه دون أن نعرف".

طويلة قصة وفاء عليان، مليئة بالحسرة، ابنتها لما، وحفيديها أبناء الشهيد مجد، وابنة أخيها التي فقدت كل أولادها وزوجها وأخوتها ووالديها، وقد بقيت وحيدة،  هم فقط الناجين من بين خمسين شخصا رحلوا ، وتركوا الصور التي لا تستطيع محوها، تحمل في حضنها حفيدتها آية، وتحلم بشيء واحد، أن تكمل الطريق بالقدر الكافي من الصبر والثبات لتستطيع إكمال رسالة ابنها وتربية أبنائه.

 

هذه الشهادة منقولة عن (شهادة بودكاست)

البث المباشر