" أمنت بأن الله يصطفي الشهداء، فقد اختار عرفات لأن الشهادة تليق بصبره وإيمانه" هكذا حدثتنا زوجة شقيق الشهيد عرفات خواجة، والذي نقل الصليب الأحمر لعائلته خبر استشهاده في معتقل سيدي تيمان قبل يومين، وأكد لهم أنه قد استشهد منذ فبراير الماضي، ولم ينقل لهم أي تفاصيل أكثر من ذلك.
لا جثة وصلت حتى تتمكن العائلة من توديعها ، خبر عابر يلقى على مسامع العائلة، التي تنزح الآن في الخيام غرب خان يونس، متفرقة لا يعلم بعضها عن بعض شيء، لا حزن كامل على الفقيد الغالي، ولا بيت عزاء مفتوح، ولكنها ذكريات فقط يقلب كل منهم صورها في عقله، ويواسي نفسه بأنه الآن في مكان أفضل كثيرا من عذابات الدنيا التي لم تكن تفارقه منذ كان طفلا.
للشهيد قصة ، فقد ولد مريضا بالسكر، وحينما بدأت الحرب كان يعاني من ألم في قدمه، وازداد الألم وتحول إلى التهاب عميق ناتج عن جرح صغير جعله ارتفاع السكر لا يقاوم ولا يحتمل ولا يبرأ ، ثم مع تدهور النظام الصحي، تدهور وضع عرفات أكثر.
تقول زوجة شقيق الشهيد :" كنا قد نزحنا معا من الشمال إلى مدينة حمد، وهناك تدهور وضع قدمه بسبب زيادة الالتهاب وارتفاع السكر، كان يتلقى علاجه في المستشفى الأندونيسي شمالا، وحينما نزحنا مجبرين بسبب استهدافات الاحتلال لمحيط المستشفى، اضطر لاكمال علاجه في مستشفى ناصر بخان يونس"
تقول المتحدثة إن زوجها (شقيق الشهيد) ظل في الشمال، ونزحت مع بقية العائلة جنوبا، وسكنت مدينة حمد مع أطفالها وأسلافها وزوجاتهم وأطفالهم، وفي تلك الأيام تحديدا استهدفت شقة في مدينة حمد مجاورة لهم، كانت والدتها سيدة مقعدة نزحت معهم من الشمال، وقد أصيبت بذبحة صدرية بعد يوم واحد من ذلك القصف، ونقلت إلى المستشفى.
تضيف :" لم يتركني أبو حمزة رغم تعب قدمه، توفيت أمي بعدها بيوم، ذهب معي إلى المقبرة، سار كثيرا على قدمه المتعبة بين الدفن والتنقل هنا وهناك، لم أشعر أنني وحيدة رغم غياب زوجي ، رافقني عرفات وأخوته إلى المستشفى، لن أنسى شهامته ، كان متعبا، يعرج، وقد زاد الاتهاب كثيرا في قدمه، ولا زال يتابع العلاج في مستشفى ناصر، ولكنه يقوم من رقدته ليقف بجانب العائلة، ويصر على حضور مراسم الدفن كلها "
بعدها تقرر وضعه تحت المراقبة في مستشفى ناصر، وظل هناك حتى اقتحم الاحتلال مدينة خان يونس، ثم رحلت العائلة من مدينة حمد حينما بدأت الطائرات بقصفها وأعلنت عن بدء العملية في مدينة خان يونس، وظل عرفات محاصرا في مستشفى ناصر.
حوصر المستشفى، وانقطعت أخبار عرفات خواجه عن عائلته، انتقلت زوجته مع أطفالها إلى رفح مع بقية العائلة، وهي تتمنى أن يظل بخير، أو يأت هاتف ليقول لها بأنه لا زال على قيد الحياة، لكن أخباره انقطعت لأشهر طويلة، وكانت العائلة تتساءل دوما:" ما الذي حدث لعرفات -إذا كان لا زال حيا- هل اعتقله الاحتلال، هل دفن في مقبرة جماعية، هل سرقوا جثمانه، هل تلقى علاجا كافيا ؟!! "
كل تلك الأسئلة وجدت أجوبتها بالأمس حينما نقل لهم الصليب الأحمر خبر استشهاده، ولعل تاريخ رحيله يثبت مستوى العذاب الذي تعرض له، والذي لم يسمح له جسده العليل بتحمل صنوفه، وكل تلك الممارسات التي يقوم بها سجانو سيدي تيمان والتي بات العالم يعرفها جيدا.
استشهد عرفات خواجة فورا، ففي نفس الشهر الذي اعتقل فيه . وهناك في الخيام أم وحيدة وأشقاء متفرقون من شمال غزة إلى جنوبها، وزوجة وأطفال لا يملكون فرصة لمواساة أمهم، أو قدرة على الاتصال ليعلموا تفاصيل الحكاية، حيث تغرق قصص الشهداء في غياهب معتقل لا يعرف القائمون عليه معنى الرحمة .
عرفات الشاب الثلاثيني كان يعمل موظفا بسيطا في وزارة المالية، ينشد بصوته العذب لأطفاله في أوقات الصفاء والسلام التي لم يعد لها مكان في غزة .
وسيقف الآن ابنه البكر حمزة والذي لم يكمل خمسة عشر عاما، ليكون شاهدا على رحيل والده، مفتقدا قبرا ليزوره أو جسدا ليودعه، وإلى جانبه شقيقه الأصغر محمد وشقيقته ريتاج، وعلى رأس الألم أمهم وجدتهم، في خيمة يتبادلون الحزن بصمت، حيث أصبح كل شيء صعب في حياة النازحين، حتى البكاء على أب اخبروهم بمكالمة هاتفيه بأنه رحل.