تتواصل سلسلة الإجرام (الإسرائيلي)، قصص تخرج إلينا تباعا، يحكيها مواطنون كل يوم، يصفون فيها الإرهاب الذي تعدى حدود الخيال منذ عام تقريبا، حيث يتوحش المحتل ويكشر عن أنياب الحقد منتقما من شعب كامل، ويجد فرصته لممارسة ساديته تجاه كل من يفكر بالنزوح عبر حاجز (نتساريم) الذي يُقطع أوصال قطاع غزة إلى نصفين.
الصحافي أحمد عليان أفرج عنه بعد اعتقاله لساعات على الحاجز خلال رحلة نزوحه إلى جنوب غزة. وتحدث عليان في مقابلة مع الجزيرة عما عاناه قائلا: "كنت أسكن في الأبراج الكويتية وبعد بدء الحرب نزحت مع أسرتي إلى بيت العائلة في مدينة غزة".
وظل عليان نازحا في بيت عائلته في غزة لستة أشهر حتى اشتد الحصار للدرجة التي لم يجد فيها طعاما لأبنائه بعد أن منع الاحتلال دخول المساعدات إلى غزة وشمالها ما اضطره لأكل الأعشاب وأوراق الشجر هو وأطفاله وعائلته.
تدهورت صحته وصحة أطفاله، وخاف عليهم من الموت جوعا، يبحث كل يوم على بسطات الطعام على أي شيء يؤكل ليسد فيه رمق أبنائه الجياع، حتى وصل بهم الأمر لعجن علف الحيوانات، وخبزه ليكون طعامهم اليومي في ظل انقطاع الطحين .
وهكذا قرر عليان النزوح إلى الجنوب قبل شهر رمضان بأيام قليلة خاصة أن زوجته حامل، وخاف على صحتها من قلة الغذاء والرعاية، أو أن يأتي موعد ولادتها في المدينة المحاصرة دون أدنى إمكانيات طبية.
لم تكن تلك اللحظات عابرة في حياة عليان، يتحدث عنها وهو يبكي:" ضربوني على الحاجز، أهانوني، تبولوا أمامي ودفعوني إلى مكان بولهم حتى مرغوا ثيابي بالبول، وسط الشتائم والإهانات والضرب"
طلبوا من زوجته وأبنائه أن يكملوا الطريق دونه، واعتقلوه لساعات، وقادوه إلى منطقة يقول:" أخذت وضعية الإعدام، فاعتقدت أن لحظة النهاية قد حانت، وصرت أدعو الله وأسأله أن يلطف بحالي، أناجيه، وأسأله عن أي عمل خير فعلته أن يكون شفيعا لي فيجمعني بأبنائي، ابني الأكبر عمره أربعة عشر عاما، فكرت فيه، في المسؤولية التي سيحملها على عاتقه لو أنا استشهدت."
يبكي عليان وهو يتذكر، اللحظة التي أطلق الجنود سراحه فيها، وأخذ يركض على امتداد الشاطيء في شارع الرشيد ليلحق بأبنائه، يركض ويسارع الخطوات، في الطريق الذي امتلأ بالجثث، يتخطاها سريعا ويحاول أن لا ينظر، وهو متعجب من حجم الإجرام الذي يمارسه هذا المحتل بكل هذه السادية التي قفاقت تصور البشر"
" أبنائي ليس لهم غيري، وأنا متعلق بهم، وزوجتي يتيمة الأبوين، ولا أحد لها غيري، وأنا لم أترك لهم شيئا، كنت أدعو الله بأن يجمعني بهم وقد تحقق دعائي، فقد سمعت صوت انفجار دفع الجنود لأن يطلبوا مني ارتداء ملابسي التي كنت قد خلعتها بناء على طلبهم في لحظة التفتيش، وقالوا لي اذهب فذهبت".
يحاول عليان أن يتماسك، وهو يعلم أنه كان مؤهلا لاعتقال كبير، نظرا لعمله الصحافي، وقد أخبر عائلته بذلك، وطلب من ابنه أن يكون رجلا في غيابه أو رحيله، وبأنه يحتمل أن يستشهد في أي لحظة، وسيكون هذا الطفل الذي لم يكمل أربعة عشر عاما هو رب الأسرة.
أنجبت زوجة عليان في الخيمة، وتعيش العائلة الآن فيها، تلتف حول بعضها البعض ليلا، وتتألم لما يحدث من موت في كل دقيقة، وتحلم بالعودة إلى بيت العائلة في غزة، الذي تركوه اضطرارا وبحثا عن الحياة والأمان المفقود حتى في مكان نزوحهم الأخير.