مجددا جباليا، هذا الاحتلال لا يكل، وذلك الفلسطيني الراسخ في شمالي قطاع غزة، أعزلا، جائعا، وحيدا، أيضا لم يكل أو ينهزم. لليوم الرابع على التوالي تحاصر الدبابات أعناق أهالي جباليا، ولا تنحني رؤوسهم، في صورة لا يستطيع القلم تسطيرها، ولا العقل تخيلها، ثم يطلقون وسما لمشاركته عبر صفحاتهم ينصحون بعضهم بأن يظلوا متشبثين في الأمكنة ولا يبرحوها، فينضم العالم اليهم مستغربا من حجم هذا الثبات.
دخلت الآليات ترافقها طائرات الكوادكابتر، تطلق نيرانها على كل ما تحرك، الشجر والحجر وحتى البيوت الفارغة من أصحابها، حيث كل شيء شمالا بات يرعبهم، وصورة المدينة في الليل المعتم تخيفهم أكثر، حتى الحجارة الميتة باتت ترعب الجنود فعادوا إلى ضربها بصواريخ أمريكية.
دخلوا إلى الأرض، داسوا الأبرياء، قصفوهم بالقنابل ورصاص الكواد كابتر، وبأحزمة نارية على امتداد الطرق الفاصلة بين المخيم والمدينة، ثم منعوا سيارات الإسعاف من الوصول، والدفاع المدني من التقاط إشارات الأحياء، والاتصالات من العمل أو طلب النجدة والمناشدة، حتى امتلأت الشوارع بعشرات الشهداء، أو الأحياء المصابين ولا يستطيع انتشالهم من الموت أحد.
هذه المرة معادلة الفناء الأخيرة، لا تخرج من بيتك، إما أنا أو أنت، معادلة يخاف المحتل من حسمها، وينطح أهالي جباليا بها الدبابات كل يوم، إذا كان ولا بد أن تموت المدينة لن تموت إلا بموتي، جملة عاش عليها أهالي جباليا عاما كاملا، وها هم يواجهون الموت من جديد في بيوت مهدمة، وفي خيام نصبوها فوق الحجارة. منطقة التوغل الرئيسية، هي المنطلقة من السياج الفاصل شرقي جباليا، ثم حيث حاصرت منطقة عزبة عبد ربه، واتجهت إلى شارع صالة مزايا خلف مدارس الأونروا "أبو زيتون".
كما اتجهت القوات الإسرائيلية غربا وتمركزت في محيط نادي خدمات جباليا وأجرت عمليات تجريف هناك، اقتلعت ما تبقى من حجارة المدينة، وسط مراوغة الأهالي واختبائهم في الأزقة، ووسط مقاومة متنبهة، فجرت ناقلات جند ودبابات، وأعلن الاحتلال عن مقتل جندي في الساعات الأولى للاجتياح، بعد عام كامل، تلك مدينة لا تموت، ورغم ذلك يصر الاحتلال على الإبادة، بكل أشكال اللا إنسانية على هذه الأرض.
ثم دخلت الآليات الإسرائيلية منطقة القصاصيب من الجهة الغربية لنادي خدمات جباليا، ولشدة الرعب، سيطرت بقوة المدفعية النارية على مقبرة الفالوجا، التي تلاحقهم منها أرواح الشهداء، والأطفال الأبرياء، ثم تتفجر مجددا بعد عام كامل عن صواريخ المقاومة لتقول لهم بأن هذه المعركة محسومة من اليوم الأول.
لكن هذا المحتل، فاق كل تصورات البشر، الحرب تحولت إلى إبادة، ثم إلى إبادة المباد مرة أخرى، القتل مرتين، وثلاث مرات. اليوم هو اليوم الخامس على حصار جباليا وتحديدا المخيم، أغلق الاحتلال كل متنفس، ثم تحول إلى المستشفيات، حاصر ثلاثتها، كمال عدوان والاندونيسي والعودة، وحاليا يعمل على إخلائها تحت تهديد المدافع وقذائف الكواد كابتر.
خرج بعض الأطباء تحت التهديد، اعتقلوا بعضهم، واستهدفوا البعض الآخر، في بعض الأخبار التي تصل من هناك دون نفي أو تأكيد، وذلك عند محاولتهم الإخلاء متوجهين نحو شارع صلاح الدين، كما أوهمهم الاحتلال، وكما أوهم كل من هددهم بالموت والرحيل من المدينة.
الجثث بالعشرات منتشرة بالشوارع لا أحد يصل إليها، والمحاولة معناها شهيد آخر، ورغم محاولات الأهالي طلب سيارة إسعاف أو التواصل مع الدفاع المدني، أو الصليب الأحمر إلا أن الاحتلال منع كل أشكال الحياة من الدخول إلى مخيم جباليا، فخاطر الأهالي بحياتهم تحت وابل النيران حتى يخرجوا الأطفال والنساء خارج المخيم إلى الأحياء الأبعد في مدينة غزة.
سيارة إسعاف وحيدة حاولت الدخول لإنقاذ الحياة المتبقية فاستهدفتها الطائرات دون رحمة ودون سابق إنذار، وفوق هذا وذاك قطع الجيش كل الإمدادات الغذائية والطبية وحتى إمدادات الماء.
حسب شهادة أحد المواطنين هناك:" المجاعة تشتد، الجوع والعطش، والخوف والنيران، والمنع من الحركة والتنقل أو محاولة النجاة، ثم بدأ الاحتلال من الليلة الماضية بحرق البيوت واحدا تلو الآخر، ما من بيت دخلوه إلا وأحرقوه.
يدخل الجيش-حسب الشاهد- إلى البيوت وينكل بأهلها المتبقين هناك، ويجبرهم على الخروج من البيت، ثم يعدمهم ميدانيا، حتى امتلأت الشوارع بالشهداء وسط منع كامل لدخول الطواقم الصحافية والمصورين، حتى تظل الصورة مغيبة.
يناشد مواطن من جباليا:" حاليا بتم التقدم من الشرق والغرب لمحاصرة مدينة جباليا كاملة وتطويقها. ما توقفوا نشر عنا، ما تخلوا هاد الجيش الوحشي يستفرد فينا. احنا أمانة في أعناقكم".