"أنا رضوان أبو معمر ناج من تحت الأنقاض، طالب جامعي، أنهت الإبادة الجماعية حياتي، وحولتني من طموح مدلل لعجوز في قلبه نار تشتعل، دفنت 22 شخصا من عائلتي، بينهم أمي وأبي".
هذا الشاب الذي يحمل اسمه معاني الرضا، أسمته أمه بعد أن أتاها في المنام زائر وطلب منها أن تسميه رضوان، وبعد كل هذا العمر عرف رضوان السر:" بعد كل هذا الابتلاء، والشعور بالرضا رغم عظيم ما حدث له، فقد يهز الجبال، إلا أن الشاب العشريني ظل راضيا منذ اللحظة الأولى للفقد".
هكذا يعرف رضوان نفسه إذا ما سأله أحد، رأى أهوال الحرب، حتى اجتاح الاحتلال خان يونس، فرأى ما هو أكبر من أهوال، نزح مع عائلته في اليوم الأول لتهديد المدينة، لأجل الأطفال والنساء، إلى منزل في منطقة قال الاحتلال إنها آمنة: "في بيت خالي مقابل المستشفى الأوروبي، أو ما تسمى منطقة الفخاري، وفي عشرين ديسمبر في السابعة ليلا بعد صلاة العشاء، استهدف البيت الذي تسكن فيه سبع عائلات، 51شخصا، استشهد منهم 30.
قهر على قهر، صوت رضوان وهو يحكي عن تلك اللحظة التي تمنى لو كانت كابوسا، يقول: "في تلك اللحظة صعدت إلى الطابق الثالث، معي شريحة إلكترونية، لكي أشبك الإنترنت، كنت جالسا في يدي الجوال، وفجأة بدون أي إنذار، بدون صوت، بدون أي شيء اهتز البيت وسقط مرة واحدة، بدأت أنزل الدرجات، أضأت الكشاف، وشعرت بلطف الله لأن جوالي ظل مضاء رغم أن شاشته قد تأثرت فورا".
ويكمل، وتتقطع كلماته بكثير من الدموع، وكأنه شلال دمع لا يريد أن يتوقف: "حينما نزلت سقط السقف فوقي فعلقت بالسقف، ظللت أردد الشهادة وفي يدي الجوال المضيء، نظرت إلى يميني، وجدت أسلاك قد خرجت من تحت الأرض، ظللت أشد، حتى استطعت النزول جهة الدرج، ودخلت الطابق الأسفل، وبدأت أنقل في المصابين المتناثرين، وأنا لا أستوعب، ونزلت إلى الطابق الأول، وهناك كانت صدمتي، كل الأجساد فتات لا يظهر من أهلي شيء، بدأت بالصراخ، أمي أبي، منصور، محمد، تالا، أسيل، اخوتي كلهم استشهدوا".
وكأنه في كابوس، يلتفت ويبحث ويصرخ، ثم بدأ يتدارك الأمر ويبحث بين الركام: "كل الناس حولي، كلهم يشاهدونني وأنا أصرخ وأنادي عليهم، ولا أحد يجيب، درت حول المنزل وأنا أصرخ، لم أجد بشرا، وجدت حجارة، أخرج الناس جثة أولى، كانت جثة بنت خالتي، حمل الناس الكثير من الجثث بجانبي، ركضت وراء السيارات حتى وصلت المستشفى".
حينما دخل رضوان إلى المستشفى كان يبحث عن بصيص أمل، رأى الناس وسيارات الإسعاف تحمل أجسادا كثيرة، ولم يعرف من هم "دخلت المستشفى فوجئت بأن أبي وأخوتي وأمي جثث نائمة، نجت أخت وحيدة معي، وخالتي وخالي وبعض الأقارب الناجيين، بحثت عن بقية أخوتي امي وأختي أسيل وابنتها، لم أجد جثثهم، تبخرت".
يركض رضوان بين أروقة المستشفى يصف لطواقم العمل هناك ويسأل، ولا إجابة وافية في زحمة الموت التي ملأت الأروقة، "خرجت إلى الثلاجات صرت أرجو العامل هناك أن يفتح لي الثلاجات، ولم يقبل، سمعتهم يقولون أنت بحالة صدمة وممنوع عليك أن ترى الجثث".
لكن الله لطيف بعباده، يكمل رضوان بكل ثبات، وهو الذي قال "أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة"، رأيت تلك الآية أمام عيني حينما استطعت بعد خمس دقائق أن أتمالك نفسي وأسجد سجدة شكر، وفورا تذكرت" إن الله اشترى من المؤمنين أموالهم وأنفسهم"، وحتى اليوم أكررها وأستغرب كيف مرت بذهني في تلك اللحظة".
يكمل رضوان: "غابت أمي بدون جثة، وغابت أختي أسيل وابنتها، تلك ذكريات لن أنساها، حينما قال لي قريبي هناك طفلة كانت ترتدي بنطلون أسود فركضت نحوها، تالا، ابنة أختي، حمدت الله في تلك اللحظة أنها لم تظل تحت الركام".
يصف المشهد، ويواصل البكاء: "إصابات كثيرة في المستشفى منها أختاي، كنت أنا الوحيد الواقف على قدميه، لم أنم تلك الليلة، وفي اليوم التالي أخذوني لأتعرف على بقية الجثث، لا أستطيع أن أصف تلك اللحظة، أخذت أختي ودخلنا، كانت أمي ملامحها مختفية، لم أستطع احتضانها، كان ذلك ألما حقيقيا، هذا الاحتلال منعنا من وداع أحبتنا، أخفى معالمنا".
كانت أمه مكفنة، ومكتوب على الكفن "أحلام أبو معمر" ولم تكن تلك أمه حينما كشف عن جثتها، وبدأ بالبحث من جديد:" ذهبنا لنبحث عن جثتها، عرفناها من جواربها، لم تكن هناك معالم لها، حتى اللحظة أعيش حسرة عدم احتضانها ووداعها، لم أستطع، تاهت جثتها بين جثث كثيرة، كلها كانت مخفية الملامح".
ويكمل رحلة الشقاء والبحث عن الأحبة:" أرسلوا لي أقاربي للتعرف على بقية الجثث، في غرفة المغسلة، كانت هناك أشلاء تغطي طاولة، ويريدون مني أن أتعرف على الشهداء وأفرقهم من بعضهم البعض، لم أر أي إنسان، عرفت بعض أبناء عمومتي من بقايا الثياب التي تغطي الأشلاء".
دفن رضوان ثلاثين شهيدا من عائلته في حفرة واحدة في رفح، من تكدس الجثث، لا يوجد قبور كافية:" دفنت سبعة وعشرين شهيدا أول يوم، كل أخ من أخوتي مع أحب الأشخاص إلى نفسه، أبي في حضن أخي الأكبر لشدة حبه، أمي وفي حضنها أسيل أختي الصغيرة، منصور أخي نامت تالا ابنة أختي في حضنه، ودفنتهم جميعا على هذا الشكل".
رغم كل شيء، رغم الموت والدموع، يقول رضوان في نهاية حديثه، الحمد لله الذي أكرمهم في أعظم المعارك وأطهرها، في معركة طوفان الأقصى، ولا طريق آخر سوى هذا الطريق، والله كرمني بهم.
هذه القصة منقولة من شهادة بودكاست